هذه الآيات تذكير عام لجميع الناس بالوصية التي هي عمل من أعمال البر والخير بعد الموت، في حال ظهور أماراته وعلاماته، بعد أن ذكر الله القصاص في القتل، وهو موت، وجاء الخطاب للمجموع، لأن الأمة متكافلة، يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد، فمناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص، والدية، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية وبيان أنه مما كتبه الله تعالى على عباده، حتى يتنبه كل أحد، فيوصي قبل مفاجأة الموت، فيموت على غير وصية.
وفرض عليكم أيها المؤمنون، إذا ظهرت علامات الموت بمرض مخوف ونحوه، وترك الواحد منكم مالا كثيرا لورثته، أن يوصي للوالدين والأقربين بشيء من هذا المال، وصية عادلة، لا تعد شيئا قليلا ولا كثيرا، في حدود ثلث التركة، وعدم تفضيل غني لغناه، ودون تمييز ولا جور في الوصية إلا لضرورة، كعجز عن الكسب أو اشتغال بالعلم، أو صغر، إذ عدم العدل يسبب البغضاء والحقد والنزاع بين الورثة، حتى ولو كان الوالدان كافرين، فللولد أن يوصي لهما بما يؤلف قلوبهما، لأن الإحسان لهما مطلوب بنحو عام، كما قال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما}[العنكبوت ٨/ ٢٩]. {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً}[لقمان ١٥/ ٣١] والمراد من قوله:
{بِالْمَعْرُوفِ} أي بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط، وهو محدد شرعا بمقدار ثلث التركة فأقل.
أوجب الله تلك الوصية حقا مقررا على من اتقى الله وآمن بكتابه. فمن غيّر الإيصاء من شاهد ووصي بعد سماعه، فإنما ذنب هذا التغيير عليه، وبرئت منه ذمة الموصي، وثبت له الأجر عند ربه.