أرسله الله عائدا إلى القوم الذين هرب منهم إلى البحر، وهم أهل نينوى من أرض الموصل، وعددهم مائة ألف، بل أكثر من ذلك، فهم يزيدون عن هذا العدد، فدعاهم إلى ربه مرة أخرى، فصدقوه كلهم وآمنوا به، بعد ما شاهدوا أعلام نبوته، وأمارات العذاب، فمتعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم ومنتهى أعمارهم، كقوله تعالى:{فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا، كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ}[يونس ٩٨/ ١٠].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت قصة يونس إلى ما يأتي:
١ - وقعت حادثة التقام الحوت يونس عليه السلام بعد أن صار رسولا، لقوله تعالى:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك.
٢ - لا يصح لنبي المهاجرة عن بلد القوم الذين أرسل إليهم إلا بإذن ربه، فلما ذهب يونس عليه السلام بغير إذن ربه، وصف فعله بالإباق. قال العلماء:
إنما قيل ليونس: أبق عن العبودية، لأنه خرج بغير أمر الله عز وجل، مستترا من الناس. وإنما العبودية: ترك الهوى، وبذل النفس عند أمور الله عز وجل، فلما آثر هواه لزمه اسم الآبق.
ولم يبين لنا القرآن الكريم سبب إباقه، وقد فهم ذلك بالأمارات.
٣ - القرعة جائزة شرعا، وملزمة الأثر كالقسمة، لقوله تعالى:{فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}. لكن المستقر في تشريعنا أنه لا يجوز الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر، وإنما تطبق عليه الحدود والتعزيرات على مقدار جنايته.
وإنما كان ذلك في يونس وزمانه مقدمة لتحقيق برهانه، وزيادة في إيمانه.