فأمري الاعتصام بالصبر الجميل وهو الذي لا جزع فيه ولا شكاية لأحد، وإنما أرضى بقضاء الله وقدره، وأشكو إلى الله وحده، ثم ترجى أن يرد عليه أولاده الثلاثة: يوسف وبنيامين، وروبيل الذي أقام بمصر، ينتظر أمر الله فيه: إما أن يرضى عنه أبوه، فيأمره بالرجوع إليه، وإما أن يأخذ أخاه خفية، فقال:{عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً.}. أي لعل الله الذي أطلب منه إرجاع أولادي الثلاثة أن يعيدهم إلي جميعا، وقد كان ملهما أن يوسف لم يمت، إنه هو العليم بحالي من الكبر والحزن، الحكيم في أفعاله وقضائه وقدره، فما بعد الشدة إلا اليسر، وما بعد الكرب إلا الفرج.
{وَتَوَلّى عَنْهُمْ.}. وأعرض يعقوب عن بنيه كارها لما قالوا ووصفوا، وقال متذكرا حزن يوسف القديم: يا حزني ويا أسفي على يوسف، والأسف: أشد الحزن والحسرة، فجدد له حزن الابنين الحزن الدفين. وهو دليل على تمادي أسفه على يوسف، وأن المصاب فيه دائم متجدد لم ينس مع تقادم العهد.
{وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ.}. أي أصيبت عيناه بسبب الحزن بغشاوة بيضاء، حجبت البصر والرؤية فأصبح كظيما أي ساكتا لا يشكو أمره إلى مخلوق، كاظما غيظه على أولاده. قيل: ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف، إلى حين لقائه، ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
والجزع البالغ والحزن الشديد أمر إنساني عند الشدائد والمصائب، وهو غير مذموم شرعا إذا اقترن بالصبر، وضبط النفس، حتى لا يخرج إلى مالا يحسن، ولقد
بكى رسول صلّى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم، وقال فيما رواه الشيخان:«إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
وإنما الجزع المذموم: ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور