القوم من السقي، وأبونا شيخ كبير هرم لا يستطيع الرعي والسقي بنفسه، مما ألجأنا إلى الحال التي ترى. وهذا شأن الضعيف مع القوي دائما، يشرب القوي أولا من الماء الصافي، ويشرب الضعيف بقية الماء. وفي هذا اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبره، واستعطاف لموسى في إعانتهما.
{رَبِّ، إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} أي فسقى غنمهما لأجلهما من بئر مغطى بصخرة، لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، كما روى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم أعاد الصخرة على البئر، ثم انزوى إلى ظل شجرة للراحة، فناجى ربه قائلا: إني لمحتاج إلى الخير القليل أو الكثير وهو الطعام، لدفع غائلة الجوع. وإنما عدى فقيرا باللام؛ لأنه ضمن معنى سائل وطالب.
وفيه دلالة على أنه سقى لهما في حر من الشمس، وعلى كمال قوة موسى عليه السلام، وعلى أنه رغم نعومة عيشه في بلاط فرعون كان مخشوشنا جلدا صابرا.
قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وجلس في الظل، وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شقّ تمرة.
٣ - الفرج بعد الشدة:{فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا} أي لما رجعت المرأتان سريعا بالغنم إلى أبيهما استغرب وسألهما عن خبرهما، فقصتا عليه ما فعل موسى عليه السلام، فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها، فجاءت إحداهما تمشي مشي الحرائر، مستحيية، متخمرة بخمارها، ساترة وجهها بثوبها، ليست جريئة على الرجال،