ولأن التذلل لمن بغى يتنافى مع عزة المؤمنين، إذ العجز والاستضعاف يؤدي إلى إغراء العدو على إلحاق صنوف أخرى من العدوان، فالمؤمنون أعزة كرام يحافظون على الحقوق والحرمات والكرامة، وليسوا بالعاجزين والأذلّين، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، فإذا قدروا عفوا.
ولا تعارض بين هذه الآية وبين ما سبقها وهي:{وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} فإن كل آية لها مجال وموضع، فالسابقة في موضع، واللاحقة في موضع، وذلك لأن العفو قسمان (١):
الأول-أن يكون سببا لتسكين الفتنة، وتهدئة النفوس، ورجوع الجاني عن جنايته، وهذا محمود، تحمل عليه آيات العفو، مثل:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى}[البقرة ٢٣٧/ ٢]. وهذا مرغب فيه في داخل الأمة الواحدة.
الثاني-أن يكون سببا لتجرؤ الظالم وتماديه في غيه واستضعافه الأمة، وهذا مذموم، تحمل عليه آيات الحث على الانتقام، وهذا واجب في مقاومة العدو الخارجي، وعند اغتصاب الحقوق، ويتوقف على توافر القوة المكافئة أو القدرة المطلوبة في نظام الإسلام بإلزام المؤمن الصمود أمام اثنين من العدو.
والأمثلة الموضحة كثيرة، منها: عفا يوسف عليه السلام عن إخوته وقال كما حكى القرآن: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ}[يوسف ٩٢/ ١٢] مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه. وعفا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أهل مكة بعد فتحها، وعفا عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية، ونزلوا من جبل التنعيم، فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام:
وعفا عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه-سيف النبي صلّى الله عليه وسلّم-