فَطَرَنِي} إما استثناء متّصل، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم، وإما منقطع، أي لكن الذي فطرني فهو يهديني، قال ذلك ثقة بالله، وتنبيها لقومه أن الهداية من ربّه.
{وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، جعلها دائمة في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله تعالى منهم، فلا يزال فيهم-ولله الحمد-من يوحّد الله سبحانه، رجاء أن يرجع إليها من أشرك منهم كأهل مكة، فإنهم إذا ذكروه، تبعوه في ملّته الحنيفية، وتأثّروا بأبوته إن كانوا يدعون تقليد الآباء. قال قتادة:«لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة».
ثمّ ندّد الله تعالى بموقف أهل مكة ووبّخهم على اغترارهم بالنّعمة وطول العمر واستمرار السّلطة والنّفوذ، فقال:
{بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} أي بل متّعت هؤلاء المشركين من أهل مكة وآبائهم من ذريّة إبراهيم بطول العمر والسّعة في الرّزق، وأنعمت عليهم في كفرهم، فاغتروا بالمهلة، وأكبّوا على الشّهوات وطاعة الشّيطان، وشغلوا بالتّنعم عن كلمة التّوحيد، إلى أن جاءهم الحق وهو القرآن العظيم، والرّسول المبين الذي أوضح مبدأ التّوحيد بالبراهين الساطعة، وشرع الله وأحكامه القاطعة، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وزاد في توبيخهم بإعراضهم عن رسالة الحقّ -رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم-فقال:
{وَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ، قالُوا: هذا سِحْرٌ، وَإِنّا بِهِ كافِرُونَ} أي حينما جاءهم القرآن والرّسول المؤيّد بالمعجزات دليلا على صدقه، وصفوا ما جاء به بأنه سحر وأباطيل، وليس بوحي من عند الله، وقالوا: إنّا بما أرسل به جاحدون مكابرة