للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واليقين (١) بترويض أنفسهم على إنفاق المال الذي هو شقيق الروح، وبذل أشق شيء على النفس من سائر العبادات ومن الإيمان، صفة نفقاتهم الكثيرة والقليلة كبستان جيد التربة، ملتف الشجر، خصب النبات، وهو بمكان مرتفع متمتع بالشمس والهواء، ينزل عليه المطر الغزير، فيثمر ضعفي غلته، وإذا نزل عليه مطر خفيف أثمر أيضا لجودة تربته وكرم منبته، وحسن موقعه.

وإنما وصف البستان بكونه في ربوة: مكان مرتفع، فلأن الشجر في الربوة أزكى وأحسن ثمرا. وإنما قال من أنفسهم أي مبتدأ منها دون عامل خارجي ليدل على أن إنفاقه نابع من ذاته ويقينه، وقناعته بجدوى فعله، ومجاهدته بخل النفس، كما قال تعالى: {وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} [الأنفال ٧٢/ ٨].

والمعنى في هذا التشبيه: أن المنفق لله وفي سبيله ويقصد تثبيت نفسه على بذل المال وفعل الخير أو التأكد من نيل الثواب يجود بقدر سعته، فإن أصابه خير كثير أنفق كثيرا، وإن أصابه قليل أنفق بقدر طاقته، فخيره دائم وبره لا ينقطع، فهو محسن في كلا الحالين، ويجد ثمرة بذله على كل حال، فهو كالأرض الجيدة التربة الخصبة النبات تثمر مطلقا وتغل الخير، ونتاجها وفير دائما، سواء أصابها مطر كثير أو قليل.


(١) قال ابن عباس: معناه: تصديقا ويقينا، وقال قتادة: معناه: احتسابا من أنفسهم، وقال الشعبي والسدي وغيرهما: معناه: وتيقنا، أي أن نفوسهم لها بصائر، فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. قال القرطبي: وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول غيرهم. والخلاصة: أن لهذه الكلمة معنيين: إما التيقن من ثواب الله، وإما تثبيت النفس على الإيمان ومجاهدتها من أجل البذل في سبيل الله، أي تزكية النفس وتطهيرها من مرض البخل وحب المال، والمعنى الثاني أولى؛ لأنه قال: من أنفسهم، ولم يقل: لأنفسهم، قال أبو حيان: (في البحر المحيط‍: ٣١١/ ٢) معناه أن من بذل ماله لوجه الله، فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها.

<<  <  ج: ص:  >  >>