الحق الذي لا يعلوه شيء. والتعبير بكلمتي {بِشَرٍّ} ... و {أَضَلُّ} ليس للمفاضلة؛ لأن هذا الدين خير محض وإنما هذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر، من قبيل المشاكلة للفظهم والمجاراة لهم في اعتقادهم، كقوله عز وجل:{أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}[الفرقان ٢٤/ ٢٥].
ثم بيّن الله تعالى حال المنافقين، فقال:{وَإِذا جاؤُكُمْ.}. أي إذا جاء منافقو اليهود قالوا: آمنا بالرسول وبما أنزل عليه، والحال أنهم مستصحبون للكفر مقيمون عليه في قلوبهم، فإذا دخلوا عندك يا محمد أو عليكم أو خرجوا من عندكم فحالهم سواء، لم يتحولوا عن كفرهم، وهذه صفة معروفة للمنافقين منهم: أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر، وقلوبهم منطوية على الكفر، ودأبهم الخداع والمكر، كما قال تعالى:{وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ؟}[البقرة ٧٦/ ٢].
وهم جميعا أغبياء؛ لأن الله أعلم بما كانوا يكتمون، أي عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم، وإن تظاهروا للناس بخلاف الحقيقة، فإن الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء، ولم يختلف وضعهم من الكيد والمكر والخبث والكذب والخيانة حين دخولهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين وحين خروجهم:{وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ، سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ}[المائدة ٤١/ ٥].
فهم بهذا شذاذ؛ لأن من كان يجالس الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوعي وأدب، سرعان ما يقذف الله في قلبه نور الإيمان، ولربما كان يقصد قتله إذا رآه وسمع كلامه.
ثم أضاف القرآن من أوصافهم شرا مما ذكر، فقال تعالى:{وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ..}. أي وترى أيها النبي كثيرا من هؤلاء اليهود المستهزئين بدينك يبادرون إلى ارتكاب الإثم والظلم والمعاصي والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل،