صدر منّي فقد علمته؛ لأن علمك محيط بكلّ شيء، فأنت تعلم سرّي وما أخفي في نفسي، ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذّاتية في نفسك، إنك أنت المحيط بالغيبيات، ما كان منها وما هو كائن وما سيكون.
هذا جواب عيسى، لم يقل: بأني قلته أو ما قلته، وإنّما فوّض ذلك إلى علم الله المحيط بكلّ شيء، وإن قلته فأنت عالم به، وهذا مبالغة في الأدب، وفي إظهار الذّلّ والخضوع لله.
ثم حكى الله قول عيسى: ما قلت لهم في شأن الاعتقاد والعبادة إلا ما أمرتني به بأن يعبدوا الله ربّي وربّكم، وأني عبد من عبادك مثلهم، وكنت المراقب على أحوالهم أشهد على ما يفعلون وأمنعهم من القول الباطل وأطالبهم بقول الحق، فلما توفيتني، أي قبضتني إليك، كنت أنت المراقب لأعمالهم وأقوالهم، الحافظ عليهم، وأنت الشهيد على كل شيء، فتشهد لي حين كنت فيهم. وفي هذا تعريف له بأفعال أتباعه وأقوالهم واعتقادهم.
وأغلب المفسرين على أن المراد بقوله:{فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي} وفاة الرّفع إلى السماء، لقوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ} قال الحسن البصري: الوفاة في كتاب الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه:
وفاة الموت، وذلك قوله تعالى:{اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها}[المائدة ١١٧/ ٥] يعني وقت انقضاء أجلها.
ووفاة النوم؛ قال الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ}[الأنعام ٦٠/ ٦] يعني الذي ينيمكم.
ووفاة الرّفع؛ قال الله تعالى:{يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}[آل عمران ٥٥/ ٣].
ثم فوض عيسى الأمر كله إلى الله فقال: إن تعذب المسيء عدلت، وإن تغفر