للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المستقبل، أم يخلقه الله ابتداء؟ وهي الآن ليست ذات زوج، ولم تكن في أي وقت زانية، وذكرت هذا تأكيدا؛ لأن قولها: {لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} يشمل الحلال والحرام.

فأجابها جبريل: هذا أمر قدره الله وقضى به من الأزل، فهو في سابق علمه الأزلي القديم، وهو أمر هيّن يسير على قدرة الله، فهو القادر على كل شيء، وقد خلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب، ليكون ذلك دليلا وعلامة على قدرته العجيبة في تنوع الخلق والإبداع، ويكون عيسى بنبوته رحمة لمن آمن به، وكان أمرا مقدرا في اللوح مسطورا.

فاستسلمت مريم لقضاء الله وقدره، واعتزلت بالحمل إلى مكان بعيد، حياء من قومها، وبعدا عن اتهامها بالريبة وتعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج.

قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال. وقال ابن عباس أيضا: ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال. قال القرطبي: وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل (١).

وقال آخرون: كان الحمل بحسب المعتاد بين النساء؛ لأن تعقيب كل شيء بحسبه، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً.}. [المؤمنون ١٢/ ٢٣ - ١٤]. وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج ٦٣/ ٢٢] قال ابن كثير: فالمشهور الظاهر-والله على كل شيء قدير-أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن (٢).


(١) تفسير القرطبي: ٩٢/ ١١ - ٩٣.
(٢) تفسير ابن كثير: ١١٦/ ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>