وقسم يحرص على طلب خيري الدّنيا والآخرة، فيقول: ربّنا هب لنا حياة طيبة سعيدة هانئة في الدنيا، وحياة راضية رغيدة مطمئنة في الآخرة، وطلب كلّ من سعادة الدّنيا والآخرة منوط بالعمل الطيب النافع، فالدّنيا تتطلب الجهد والسعي في سبيل الرزق، وحسن المعاملة والمعاشرة، والتّخلّق بمحاسن الأخلاق، والآخرة لا تنال إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وهذا القسم حريص على اجتناب المعاصي وأسباب العذاب في النار، فيقول: ربّنا احفظنا من شهوات نفوسنا، وباعد بيننا وبين الخطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ووفقنا للعمل بما يرضيك، فإذا قام المؤمن بفرائض الله واجتنب المعاصي والمنكرات، وطلب سعادة الدارين، حقق الله له النجاح فيهما.
والحسنة في الدّنيا: هي الصّحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء. والحسنة في الآخرة: هي الفوز بالثواب والخلاص من العقاب.
ثم أشار الله إلى الفريقين: الذين طلبوا الدنيا، والذين طلبوا الدنيا والآخرة معا، فأبان أنّ كلاّ منهما يعطى حظّا مما طلب ودعا، وقيل: إن قوله: {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ.}. راجع للقسم الثاني فقط، لأن الله ذكر حكم الفريق الأول بقوله:{وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}. وعلى كل حال يكون نوال الجزاء مبتدءا من الكسب، لأن {فَمِنَ} لابتداء الغاية، لا للتبعيض، والكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله، والله سريع الحساب، يوفي كلّ كاسب أجره عقب عمله، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطّلاع كل عامل على عمله، ويتمّ ذلك في لحظة،
فقد روي أن الله يحاسب الخلائق كلهم بمقدار لمحة البصر، وروي بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا. وفي الجملة: آية {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة، وما دام الحساب محقق الوقوع، فهو قريب سريع.