وكان النبي صلّى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عائشة يقبل الهدية ويثيب عليها، ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها؛ لأنه قال لها في كتابه:{أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهي الرشوة التي لا تحل. وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة؛ لأنها تورث المودة، وتذهب العداوة،
روى مالك عن عطاء الخراساني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تصافحوا يذهب الغلّ، وتهادوا تحابّوا، وتذهب الشحناء»
وعن ابن شهاب الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تهادوا بينكم، فإن الهدية تذهب السّخيمة».
وروى البزار عن أنس بإسناد ضعيف:«تهادوا، فإن الهدية تسلّ السخيمة».
قال القرطبي: وعلى الجملة: فقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة.
أما سليمان عليه السلام فإنه رد هدية بلقيس؛ لأنها كانت بدلا عن السكوت عن الحق وعن الدعوة إلى الإسلام والإيمان، وواجب الرسل التبليغ دون أجر، ودون مهادنة أو مساومة؛ لأن غرضهم إرضاء الله، ونشر العقيدة والفضيلة والإخلاص في عبادة الله تعالى. لذا انضم إلى رده الهدية إنذارهم بالحرب والقتال بجيوش لا طاقة لهم على مقاومتها، وتهديدهم بالإخراج من أرضهم أذلة قد سلبوا ملكهم وعزمهم، مهانين محتقرين إن لم يسلموا.
وقد حقق الإنذار الغاية منه، فجاءت بلقيس مع حاشيتها وجنودها مسلمين منقادين طائعين، كما أبانت الآيات التالية.