كان فقد الشيخ أمراً كبيراً، إذا مات الشيخ والعالم صاحب الحلقة أحدث فراغاً كبيراً، قال الربيع كنا جلوساً في حلقة الشافعي بعد موته بيسير، فوقف علينا أعرابيٌ فسلم، ثم قال لنا: أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ فقلنا: توفي رحمه الله، فبكى بكاءً شديداً، ثم قال: رحمه الله وغفر له، فقد كان يفتح ببيانه منغلق الحجة، ويسد على خصمه واضح المحجة، ويغسل من العار وجوهاً مسودة، ويوسع بالرأي أبواباً منسدة، ثم انصرف، وكان الشيخ يعين من طلابه من يلي الحلقة من بعده، وقد دخل على الشافعي في مرض موته الربيع والبويطي والمزني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: فنظر إلينا الشافعي ساعة، فأطال يتفرس في وجوههم، وكان الشافعي من أشهر الناس في الفراسة، ينظر إلى الشخص فيعرف أشياء من أحواله خفية بفراسته، قال: أما أنت يا أبا يعقوب، فستموت في حديد، يعني: البويطي، ستحدث قضية تقيد بالأصفاد وتموت بالأصفاد، وكان البويطي من الثابتين في فتنة خلق القرآن فربط وقيد ومات في القيد، وأما أنت يا مزني، فسيكون لك بـ مصر هناتٌ وهناتٌ، ولتدركن زماناً تكون أقيس أهل ذلك الزمان، وأما أنت يا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فسترجع إلى مذهب أبيك، يعني: إلى مذهب مالك، وكان قد تحول إلى الشافعية، ثم فعلاً بعد ما مات الشافعي حصلت له قضية واختلاف بينه وبين بعض الناس فرجع إلى مذهب مالك، وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب، قم فتسلم الحلقة، قال الربيع: فكان كما قال، ما رأيت أفطن من الشافعي، سمى رجالاً ممن يصحبه، فوصف كل واحدٍ منهم بصفة ما أخطأ، فـ الشافعي عيَّن من يلي الحلقة من بعده، وكانت الحلقة أحياناً يتعاقب عليها العلماء وكأنها وراثة، فقال أحمد بن محمد الشافعي: كانت الفتوى بـ مكة في المسجد الحرام لـ ابن عباس، وبعد ابن عباس عطاء بن أبي رباح، وبعد عطاء؟ عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وبعد ابن جريج؟ مسلم بن خالد الزنجي، وبعد مسلم؟ سعيد بن سالم القداح، وبعد سعيد محمد بن ادريس الشافعي وهو شاب، حلقة مكانها معروف في المسجد يتتابع عليها العلماء، إذا مات خلفه آخر، والثاني، والثالث وهكذا، ولم يكونوا يغترون بكثرة الطلاب.