[أبو نعيم وتزكيته لابن المديني]
والقصة المشهورة في خروج بعض المحدثين إلى أبي نعيم الفضل بن دكين، وهذه القصة أخرجها الخطيب رحمه الله بسنده إلى أبي العباس بن عقدة يقول: خرج أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني إلى الكوفة إلى أبي نعيم، فدلس يحيى بن معين أربعة أحاديث على أبي نعيم، فلما فرغوا، رفس أبو نعيم يحيى بن معين حتى قلبه، ثم قال: أما أحمد فيمنعه ورعه من هذا، وأما هذا -أي: علي بن المديني - فتحنيثه -أي: عبادته وتقواه- يمنعه من ذلك, وأما أنت فهذا من عملك.
قال يحيى: "فكانت تلك الرفسة أحب إليَّ من كل شيء".
وقد وردت القصة بسياق آخر مختلف: أن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ومعهما ثالثٌ صغيرٌ في السن ذهبوا إلى أبي نعيم الفضل بن دكين، فقال يحيى لـ أحمد: أريد أن أختبر الرجل.
قال: لا حاجة إلى ذلك، فقال: لا بد من اختباره، فأخذ من أحاديث أبي نعيم عشرة أحاديث كلها من رواية أبي نعيم الفضل بن دكين وجعل على رأسها واحداً ليس من حديثه وهكذا جعل على كل عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديث أبي نعيم، ثم جاء إليهم فجلسوا، وكان على دكة له -مكان مرتفع -مسطبة- جلسوا عليها- فبدأ يحيى بن معين بسرد الأحاديث، على طريقة الطلاب والشيوخ، يقول: حدثكم فلان عن فلان عن فلان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثكم فلان عن فلان، والشيخ يوافق، وبهذا يكون مجلس الحديث والطالب يحدث عن الشيخ بعد ذلك بهذا المجلس، ولما سرد عليه مجموعة من الأحاديث -في كل ذلك وأبو نعيم يهز برأسه موافقاً- فلما بلغ الحديث الذي ليس من حديثه، توقف أبو نعيم وقال: اضرب عليه، فهذا ليس من حديثي، ثم سرد الأحاديث التي بعدها، وكل ذلك يوافق عليه حتى وصل إلى حديث، فقال: اضرب عليه فهذا ليس من حديثي، فلما تكررت، فطن لها أبو نعيم -فطن أن القضية قضية اختبار- فقال: أما هذا -أي: أحمد بن حنبل - فأورع من أن يفعل ذلك، وأما هذا فأقل من أن يفعل ذلك، وإنه من عملك يا كذا، وأخرج رجله فرفسه فوقع من على الدكة، فلما رجعوا قال أحمد: ألم أقل لك؟ -أي: أن الرجل ثقة- فقال يحيى رحمه الله: لرَفْسَتُه أحب إليَّ من كذا وكذا.
في هذه الرواية أن علي بن المديني اصطحبهم، وأن أبا نعيم الفضل بن دكين شهد له بأن تحنثه -أي: تقواه وعبادته- يمنعه من أن يفعل هذا.
وكان علي بن المديني رحمه الله حريصاً على طاعة الله وأداء واجباته، فجاءت قصة: قال أحمد بن حنبل: حضرت عند إبراهيم بن أبي الليث، وحضر علي بن المديني، وعباس العنبري، وجماعة كثيرة، فنودي لصلاة الظهر، فقال علي بن المديني: نخرج إلى المسجد، أو نصلي هاهنا؟ إلى آخر القصة.
فكان الذي اقترح أو الذي ابتدأ باقتراح الخروج إلى المسجد هو علي بن المديني رحمه الله، ولعله جاء بالكلام على طريقة سؤال؛ لأنه يرى أن هناك في المجلس من هو أكثر منه علماً.
وكان رفيقاً حميماً للإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكان صديقاً أيضاً للعالم الرباني محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، ولذلك يقول عن صداقته للشافعي: كان الشافعي لي صديقاً، وكان سبب معرفتي إياه عند ابن عيينة، وكان ابن عيينة يجله ويعظِّمه - ابن عيينة شيخٌ للشافعي، وشيخٌ أيضاً لـ علي بن المديني، وتعرَّف علي بن المديني على الشافعي عند ابن عيينة - وهكذا لا زال الأخيار يتعرف بعضهم على بعض عند الأخيار، وكانت مجالس العلماء وسيلة للتعارف بين طلبة العلم، ويستفيدون أشخاصاً أجلاء من خلال هذه الحِلَق والتلاقي، وهذا هو الوضع الطبيعي للوضع المتوقع لهذه الحِلَق التي هي حِلَق ذكر الله؛ لأنها تضم الأخيار والطيبين والعلماء، ومنها تنطلق وتعقد أواصر التعارف.
وهذه أيضاً فائدة من الفوائد التي ينبغي التوقف عندها.