[قول ابن المديني في مسألة مس الذكر]
ومسألة مس الذكر ينقض الوضوء أم لا؟ هذه المسألة من المسائل الخلافية الكبيرة في الفقه الإسلامي، ولكل من الفريقين أدلة، فذهب بعضهم إلى حديث بسرة، وذهب بعضهم إلى حديث قيس بن طلق، وقالوا: هذا لا يُتَوَضَّأ منه لحديث: (إنما هو بضعة منك)، وأولئك قالوا: (من مس ذكره فليتوضأ) حديثان كل واحد يُفْهَم منهم شيء مخالف للآخر.
حصل نقاش ظريف ولطيف ونادر بين علي بن المديني ويحيى بن معين بحضور أحمد بن حنبل، فيقول الحافظ رجاء بن مرجى: اجتمعنا في مسجد الخيف أنا، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، فتناظروا في مس الذكر، قال يحيى بن معين: يُتَوَضَّأ منه، أي: من مس الذكر.
وتقلد علي بن المديني قول الكوفيين، وقال به.
وقول الكوفيين أنه لا يتوضأ من مس الذكر.
واحتج ابن معين بحديث بسرة بنت صفوان الذي هو: (من مس ذكره، فليتوضأ).
واحتج علي بن المديني بحديث قيس بن طلق، الذي هو: (إنما هو بضعةٌ منك) أي: هو جزء من جسدك، فلماذا تتوضأ؟ وقال علي بن المديني لـ يحيى -في المناظرة-: كيف تتقلد إسناد بسرة، ومروان بن الحكم أرسل شرطياً حتى رد جوابها إليه، أي: الناقل بين بسرة وبين مروان شرطي، فكيف تقبل هذا السند؟ فقال يحيى بن معين -رداً على هذا الإيراد-: ثم لم يُقْنِع ذلك عروة حتى أتى بسرة -أي: بنفسه عروة بن الزبير ثقة لا شك- حتى أتى بسرة وسألها وشافهته بالحديث، فإذا لم يقنعوا بطريق الشرطي، فهذا طريق عروة عن بسرة.
ثم انتقل يحيى بن معين إلى الهجوم -الآن- فقال: ولقد أكثر الناس في قيس بن طلق، وأنه لا يُحتج بحديثه، أي: وأما أنت يا علي بن المديني! حديثك -حديث قيس بن طلق - هو الذي فيه المشكلة.
قال أحمد بن حنبل رحمه الله متدخلاً في النقاش: كلا الأمرين على ما قلتما -أي: كل واحد منكما له حظ من النظر والدليل، كأنه قال أي: كلاكما مصيب، كلاكما كلامه وقوله له دليل، فقال يحيى بن معين -متابعاً للنقاش، ناصراً قوله في أن من مس ذكره فليتوضأ- قال يحيى: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: [يُتَوَضَّأ من مس الذكر] الآن انتقل، قرأ الأحاديث المرفوعة، وانتقل إلى قول الصحابة.
فقال علي بن المديني: كان ابن مسعود يقول: [لا يُتَوَضَّأ منه، وإنما هو بضعةٌ من جسدك] أي: أن ابن مسعود أفقه من ابن عمر وأعلم، أنت تقول عن ابن عمر، وهذا ابن مسعود يقول: إنه لا يُتَوَضَّأ.
فقال يحيى: هذا عَن مَن؟ أي: حديث ابن مسعود مَن الذي رواه؟ فقال: عن سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل، عن عبد الله بن مسعود، وإذا اجتمع ابن مسعود وابن عمر واختلفا، فإن ابن مسعود أولى أن يُتَبَّع؛ لأنه أكبر وأفقه.
هنا تدخل أحمد بن حنبل فقال: نعم.
ولكن أبا قيس الأودي لا يُحْتَجُّ بحديثه؛ لأن أبا قيس الأودي في إسناد الحديث الذي أورده ابن المديني، عن ابن مسعود، كأنه يقول: يا علي بن المديني! إسنادك الذي سقته عن ابن مسعود فيه أبو قيس الأودي لا يُحْتَجُّ بحديثه.
فقال علي: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن عمير بن سعيد، عن عمار، قال: [لا أبالي مسسته، أو أنفي] أي: أنا عندي هذا والأنف سواء، فأتى له بإسناد آخر، ابن المديني دائرة معلوماته واسعة، فقال: طعنتَ في إسناد ابن مسعود من جهة أبي قيس الأودي! خذ هذا شيء عن عمار.
فتدخل يحيى بن معين، قال: بين عمير بن سعيد وعمار بن ياسر مفازة -كأنه قال: فيه انقطاع بين عمير بن سعيد -الذي ذكرته الآن في السند- وبين عمار بن ياسر.
فتدخل أحمد، وقال: عمار وابن عمر استويا، فمن شاء أخذ بهذا، ومن شاء أخذ بهذا، فـ أحمد بن حنبل رحمه الله أنهى النقاش على أن كلا القولين لكل واحد من الفريقين أن يأخذ بما رآه، فلا هذا ولا ذاك ولا هذا القول باطل، المسألة خلافية قوية، وكلٌ قول له أدلة.
وقد ذهب شيخ الإسلام رحمه الله وغيره من أهل العلم إلى التوسط بين القولين، فقال: إن مسه بشهوة أعاد الوضوء، وإن مسه بغير شهوة لا يعيد الوضوء؛ لأن حديث: (إنما هو بضعةٌ منك) يدل على ذلك -أي: أنه هو والأنف سواء، هذا يدل في حالة إذا مسه بغير شهوة، متى يكون الذكر وأي جزء من جسد الإنسان سواء في المس؟ إذا كان هناك شهوة؛ لأنه لا يحس بشهوة إذا مس أنفه، أو يده، أو رجله، فإذا مس بشهوة أعاد الوضوء، وإذا مسه بغير شهوة فلا يعيد الوضوء، ولعل هذا القول أرجح الأقوال وأعدلها، والله أعلم.
لكن هذه مناظرة من المناظرات التي تثبت كيف كان العلماء يتناقشون، وهي من النوادر التي ينبغي النظر فيها، وما خسروا بعضاً من أجل نقاش، ولا صار بينهم منازعة ومقاطعة من أجل النقاش، كل إنسان يورد الإيرادات وبالأدب.
فالمهم أن علي بن المديني رحمه الله لم يكن متقيداً بمذهب معين من المذاهب المعروفة، وإنما يأخذ بما ترجح لديه وما أداه إليه اجتهاده بناءً على الدليل الصحيح.
وقال علي بن المديني: "إن الذي يُفتي في كل ما يُسأل عنه لأحمق"، أي: هناك أشياء تخفى.