[الفرق بين المؤمن والكافر في مسألة الأجل]
والمؤمن آمن على أجله، فإن الله قدر له ميقاتاً مسمى، وأياماً معدودة، وأنفاساً محدودة لا تملك قوة في الأرض أن تنقص منها، قال تعالى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:٣٤] {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:١١] {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح:٤] {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:١١].
أيقن المؤمن أن الله فرغ من الآجال والأعمار وكتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فما الذي يغيرها الآن؟ ومن الذي يغيرها؟ وكتب على كل نفس متى تموت، وأين تموت.
ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها
وبهذه الحقيقة ألقى المؤمن عن كاهله هم التفكير في الموت والخوف على الحياة.
وبعض الناس يحتاطون لأجل الموت، يشترون القبر، ويعمرونه، ويزينونه، ويفعلون ويفعلون ثم يموتون بأرض أخرى! إن التجهز للموت حق ولكن بالحق، باليقين بأن الإنسان ربما يموت في غير البقعة التي توقع أن يموت فيها، وأن علم ذلك مما انفرد به الله تعالى.
لما هدد الحجاج سعيد بن جبير بالقتل قال له سعيد: "لو علمت أن الموت والحياة في يدك ما عبدت إلهاً غيرك".
المؤمن لا يخاف الموت فهو يعلم أنه زائر لا بد من لقائه، وقادم لا ريب فيه، لا يرده الخوف منه ولا يثنيه الجزع: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:٨] {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨] {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:٥٤] أي: إلى الموضع الذي قدر الله أن يقتلوا فيه.
ويهون الموت على المؤمن إذا عرف أنه سبيل أفضل الناس من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا عليه إذن إذا اقتفى أثرهم وسار في دربهم.
إن الموت خطبٌ قد عظم حتى هان، وخشن حتى لان، إنه بلية عمت والبلايا إذا عمت هانت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠] هذا من جهة الحس في المؤمن.
أما من جهة الاستعداد له فالموت خطب عظيم في نفسه، فهو يستعد له، ولكن هل يخاف من الموت خوفاً سلبياً يقعد به عن العمل كما يشتكي عدد من الناس؟ يقول: إن زوجتي تخاف من الموت ولا تنام بالليل، ولا لها طعام، ولا ذاقت شيئاً، وإنها قد مرضت ونحل عودها، فإذا كان الخوف من الموت خوف سلبي قعد بالإنسان عن ممارسة أي شيء.
وهناك خوف إيجابي: وهو الذي يدفع للاستعداد للموت، ونحن نريد الخوف الثاني فنعظمه في أنفسنا، وأما الخوف الأول فنهونه في أنفسنا؛ لأن الموت طريق لا بد أنه مسلوك.
ومتاع الدنيا أهون عند المؤمن أن يأسى على فواته، لماذا يخاف أهل الدنيا الموت؟ لماذا إذا قلت لأحدهم: فلان مات قال: أعوذ بالله؟! تعوذ بالله من الموت وهو آتيه آتيه.
لماذا يخافون الموت؟ لأنه سيحرمهم من المخططات، والأرباح، والنعيم، وكل الآمال التي يأملونها سيحرمون منها، ولذلك يكرهونه ويخافونه، والمؤمن يود أن يفسح له في الحياة لا لأجل أن يعمر قصراً، أو يشتري سيارة، لكن لأجل أن يستكثر من الأعمال الصالحة، وأن يتوب توبة أخرى.
الموت -أيها الإخوة- ليس عدماً محضاً ولا فناءً صرفاً، بل هو انتقال من حياة إلى حياة، ومن طور إلى طور.
وما الموت إلا رحلة غير أنها من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي
إنها انطلاقة من قفص الجسد لتعود إليه يوم الدين، وقد كتب أحد الصالحين في وصيته أبياتاً يبين هذه الحقيقة لإخوانه بعد موته:
قل لإخوان رأوني ميتاً فبكوني ورثوني حزنا
أتظنون بأني ميتكم ليس هذا الميت والله أنا
أنا في الصور وهذا جسدي كان ثوبي وقميصي زمنا
أنا عصفور وهذا قفصي طرت عنه وبقي مرتهنا
أنا عصفور وهذا قفصي: الجسد الذي ترونه ممتداً أمامكم على الفراش.
لا تظنوا الموت موتاً إنه ليس إلا نقلة من هاهنا
أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى جسد الشيخ الكبير الذي تقدمت به السن، ونظرنا إلى تجاعيده وترهل هذا الجسد ولين العظام، إذا نظرت جيداً إلى جسد العجوز الفاني لعلمت أن خلقان الثوب الذي بداخله الروح لا بد أن يعنيه أن هناك انتقالاً؛ لأن هذا الثوب وهذا الجسد بعد هذا الترهل والتجاعيد لا بد أن ينتقل؛ لا بد أن يكون هناك انتقال فإذا رأيت بيتاً يهدم ويخرب فاعلم أن هناك تصميماً جديداً وبناء جديداً.
ولعل من حكمة الله أن يجعل جسد الإنسان يهترئ ويذبل؛ ليتمعن المتمعنون بأن هذا الجسد الآن بعد اهترائه في سن الشيخوخة لم يعد يصلح أن يستمر ثوباً للبدن، وأن هناك تغيراً واضحاً من حال العجوز الفاني والشيخ الكبير، وأن هذا الجسد لم يعد يتحمل الاستمرار؛ فلا بد من التغيير والتغيير بالموت، ولكن الموت ليس هو الفناء وإنما تنتقل الروح من عالم إلى عالم آخر.