[النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالقرينة]
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده فقال له: العهد قريب والمال أكبر من ذلك، فهاتان قرينتان في غاية القوة، كثرة المال وقصر المدة، والقصة بأكملها رواها ابن عمر رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر، حتى ألجأهم إلى قصرهم والحصن فغلب على الزرع والأرض والنخل فاستولى عليها بالقوة، فصالحوه على أن يجلوا من حصونهم ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصخراء والبيضاء -الذهب والفضة- واشترط عليهم النبي عليه الصلاة والسلام ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ولا أمان، يقتلوا إذا كانوا كاذبين وغشوا.
فغيبوا اليهود، أخفوا مسكناً فيه مالٌ وحليٌ لـ حيي بن أخطب، كان قد احتمله معه إلى خيبر، حين أجليت النظير.
لجأ حيي بن أخطب من نظير إلى خيبر، ومعه هذا المال والذهب، فلما أجلي يهود خيبر أخفوا هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب -وكان حيي قد قتل-: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النظير؟ قال: أذهبته النفقات والحروب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد قريب والمال أكثر) ما مضى مدة طويلة على المال العهد قريب والمال كثير، لا يمكن أن يكون قد ذهب بالنفقات فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير، سلم اليهودي إلى الزبير فمسه بعذاب، لما قامت القرينة قال له: اضربه ليعترف، وكان قبل ذلك دخل خربةً فقال -هذا العم لما ضرب- قال: رأيت حيي ابن أخي يطوف في خربةٍ هاهنا، فذهبوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق بالنكث الذي نكثوا.
ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة، وعقوبة أهل التهم، وجواز الصلح على الشرط وانتقاض العهد الذي خالفوا وإخزاء الله لأعدائه بأيديهم وسعيهم، فهو سبحانه قادرٌ على أن يطلع رسوله على الكنز بالوحي، لكن جعلها تمضي لكي يعرف القضاة من بعد النبي عليه الصلاة والسلام مسألة الأخذ بالقرائن.
وكذلك قال: ومن ذلك أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل: كل واحد يقول: أنا قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا.
قال: فأرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال لأحدهما: هذا قتله، وقضى له بسلبه) فمن خلال السيوف عرف -بالقرائن- من هو الذي قتله فعلاً، وقضى له بسلبه، وهذا من أحسن الأحكام وأحقها بالاتباع فالدم في النصل شاهدٌ عجيب.
وقد روى ابن ماجة وغيره عن جابر بن عبد الله قال: (أردت السفر إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، قال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً) الآن جابر كان عليه ديون ويريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه خمسة عشر وسقاً من تمر خيبر، من قبل وكيل النبي عليه الصلاة والسلام، كيف يعرف الوكيل أن جابراً فعلاً عنده وكالة بأن يأخذ خمسة عشر وسقاً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ جابر (فإذا طلب منكَ آيةً فضع يدك على ترقوته) قال: وكيلي إذا طلب منك دليلاً فضع يدك على ترقوته، كان يوجد اتفاق سابق بين النبي عليه الصلاة والسلام ووكيله قبل أن يذهب على هذه العلامة وهي: إذا جاءك شخص يدعي شيئاً مني ووضع يده على ترقوتك اعرف أنه محق.
فهذا اعتمادٌ في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة، وإقامة لها مقام الشاهد، فالشارع لم يلغِ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال.
قال ابن القيم: ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لهم لم يقدموا عليها شهادةً تخالفها، وكذلك فإن الأمارات والفراسة ربما تدفعهم إلى الارتياب في حال المدعي، فيسألونه عن تفاصيل زائدة، وعن صحة ما يقول: وأين كان ونظر الحال، ونحو ذلك من الأشياء والأوصاف التي تقود في النهاية إلى معرفة الحقيقة.