[رحلته في طلب العلم]
ولد الحافظ ابن رجب رحمه الله سنة (٧٣٦) هـ على الراجح في بغداد، وصرح بأنه سمع من شيوخ بغداد وهو صغير، وتوفي رحمه الله تعالى سنة (٧٩٥) هـ بـ دمشق، وعلى ذلك يكون قد عمر نحواً من ستين سنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي بين الستين والسبعين) دُفن بمقبرة الباب الصغير بجوار قبر إمام المذهب في الشام عبد الواحد الشيرازي، وكان في وفاته عبرة، فقال العالم: ابن نصر الدين، ولقد حدثني من حفر لحد ابن رجب -حفار القبور- أن الشيخ زين الدين ابن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام، فقال لي: احفر لي هنا لحداً، وأشار إلى البقعة التي دفن فيها، قال: فحفرت له، فلما فرغت، نزل في القبر واضطجع فيه، فأعجبه، وقال: هذا جيد، قال الحفار: فو الله ما شعرت بعد أيام إلا وقد أتي به محمولاً في نعشه، فوضعته في ذلك اللحد وواريته فيه.
فهو لما أحس بدنو أجله رحمه الله، أمر الحفار أن يحفر له ذلك القبر الذي دُفن فيه، وقال ابن عبد الهادي رحمه الله: أنه وجد في هامش كتاب القواعد الفقهية لابن رجب أنه قال عند خروج روحه ثلاثين مرة: يا الله العفو.
الأسرة التي عاش فيها الحافظ ابن رجب كانت أسرة علم، وجده عبد الرحمن رجب بن الحسن السلامي من علماء بغداد، ثم انتقل مع أهله في آخر حياته إلى دمشق.
ويقول ابن رجب: قرأت على جد أبي أحمد بن رجب بن الحسن غير مرة في بغداد وأنا حاضر في الثالثة والرابعة والخامسة، أي: من عمره، لما كان عمره ثلاث سنوات وأربع سنوات وخمس سنوات.
وقرأ أيضاً على أبيه وهو أحمد بن رجب رحمه الله، وقد رحل به أبوه من بغداد إلى دمشق بعد وفاة الجد، فسكنوا دمشق، وكانت للأب رحلات مع ولده الحافظ عبد الرحمن إلى دمشق والقدس من قبل، وأسمعه فيها من المشايخ، ومات أبوه سنة [٧٧٤هـ] وبذلك يكون الابن قد تتلمذ على أبيه وعلى جده، فكانت بيئةً صالحةً نهل منها الحافظ ابن رجب رحمه الله.
ومما يدل على ذلك أنه في صغره كان يحضر الدروس وأنه قال عن درس حضره وعمره خمس سنين وكان لا يفقهه جيداً، ولكنه حضر؛ وذكر في ترجمة شيخه أبي عبد الله محمد المؤذن الوراق أنه حضر عليه وعمره أربع سنوات قراءة كتاب النكاح من صحيح البخاري بكامله.
وكذلك حضر قراءة على شيخه الربيع علي بن عبد الصمد البغدادي هو في الخامسة من عمره.
فإذاً لا عجب أن تكون هذه الشخصية التي طلبت العلم في هذه المرحلة المبكرة من السن شخصيةً نابغةً، شبَّ في طلب العلم، ورحل مع والده، وحصل السماعات، وسمع ابن القطيعي وأجازه وهو متوفى سنة [٧٣٩هـ] ولقي في دمشق الحافظ أبا القاسم البرزالي وهو قرين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأجاز ابن رجب.
ورحل إلى دمشق وسمع فيها، ومصر، ونابلس، والقدس، وفي عام [٧٤٩هـ] سافر إلى الحج مع والده، وكان قد سمع قبل تلك الرحلة ثلاثيات البخاري بالسند على عمر بن علي البغدادي سنة [٧٤٩هـ] بـ بغداد بالحلة اليزيدية.
ومن أشهر شيوخ الحافظ ابن رجب رحمه الله على الإطلاق هو: الإمام العلم ابن القيم أبو عبد الله الذي لازمه ابن رجب أكثر من سنة، وسمع منه كتابه العقيدة النونية، المسماة: (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية)، وكان يثني على ابن القيم جداً، فإنه قد ذكر في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة ابن القيم، قلت: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله، والانكسار له والانطراح بين يديه، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، وقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين -أي: ابن تيمية - في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ إلى آخر الكلام.
توفي ابن القيم رحمه الله سنة [٧٥١هـ] وكان عمر ابن رجب تقريباً [١٥سنة].
إذاً لازم ابن القيم في أوائل شبابه، ولا شك أنها فرصة عظيمة للتأثر من ابن القيم رحمه الله في الإيمان والعلم، وقد قرأ عليه مختصر الخرقي من حفظه، وسمع منه أجزاء كثيرة من مصنفاته.
فإذاً ابن رجب تلقائياً ينتمي إلى مدرسة ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من السلفيين في ذلك الوقت رحمهم الله تعالى، لكن ابن رجب رحمه الله عُني عناية خاصة بالحديث، واستفاد من مدرسة المحدثين من طبقة الحافظ جمال الدين المزي وتلامذته الإمام الذهبي وابن الخباز، ولذلك انصبغ ابن رجب رحمه الله بصبغة حديثية، واجتمعت له العقيدة السلفية والمذهب الحنبلي في الفقه مع غيره بطبيعة الحال والاهتمام بالحديث، ولذلك كان شخصاً مثالياً.