[خطر الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي]
وهاهنا -أيها الإخوة- مزلق عظيم يقع فيه كثير من الناس، ويتورطون فيه وهو من مصائد الشيطان، وذلك أن أحدهم إذا جاء ليعتذر إلى ربه عن الذنوب والسيئات التي ارتكبها، فإنه يعتذر إليه بالقدر، يعتذر إلى ربه اعتذار المخاصم، واعتذار الذي كأنه يقول: لست أنا الذي أخطأت وأذنبت، وإنما أنت الذي قدرت عليَّ هذا الذنب، وأنت الذي أجبرتني على فعله.
ولذلك كان هذا المزلق الخطير من الأمور التي تزيد في غضب الرب عز وجل، بدلاً من أن تنقل هذا الإنسان إلى مواقع الرحمة وعظيم رضوان الله تعالى.
وإن كثيراً من الذين يزعمون أنهم يتوبون إنما هم مخاصمون لله عز وجل في مسائل القدر، وأحياناً يكون خصامهم عن جهل، وهو جهل قبيح جداً لا يعذر فيه المسلم، وأحياناً يكون عن شُبَهٍ، وأحياناً يكون عن إصرار وإقدام، فهذا كيف يغفر الله عز وجل له؟ فالذي يزني ثم يقول لربه -بينه وبين نفسه-: أنت الذي قدرت عليَّ الزنا، وأنت الذي أجبرتني عليه، فما هي حيلتي؟ وما هو ذنبي؟ هذا القائل -أيها الإخوة- على خطر عظيم؛ لأنه لم يُرد بالاعتذار التقرب إلى الله عز وجل، وإظهار ضعفه، والمسكنة بين يديه، وتبيان غلبة العدو عليه، ولكنه أراد أن يخاصم ربه، وأن يحتج عليه، فكيف يقبل الله اعتذار هذا الرجل، فمثل هذا الذي يخاصم ربه مخاصمته منافية للتوبة.
فإن العبد أذنب فقال: يا رب هذا قضاؤك، وأنت قدرت عليّ، وأنت حكمت عليَّ، وأنت كتبت عليَّ، فالله يقول له: وأنت عملت، وكسبت، وأردت واجتهدت، وأنا أعاقبك عليه؛ لأن هذا ليس بعذر إطلاقاً، أما إذا كان لسان حال العبد يقول: يا رب أنا ظلمت، وأخطأت، واعتديت، وفعلت، فعند ذلك ترى الله يقول له: وأنا قدرت عليك، وقضيت وكتبت، وأنا أغفر لك.
فالاعتذار أيها الإخوة! اعتذاران: اعتذار ينافي الاعتراف، فهذا مناف للتوبة، واعتذار يقرر الاعتراف، يقول: يا رب أنا فعلت وقصرت، وأخطأت وأذنبت وأجرمت، وأنا مقر بذنوبي ومعترف بها، واعتذر إليك عما فعلت، فهذا الاعتذار -أيها الإخوة- هو الذي يرضاه الله عز وجل، ويقبله.
وأما من خاصم الله تعالى، وقال له: أنت قدرت عليَّ، فما هو ذنبي؟ فعذره غير مقبول، وهذا الاعتذار بالقدَر يتضمن تنزيه الجاني لنفسه، فكأنه يقول لربه: أنا لست مذنباً، فينزه نفسه وهو الذي تمرغ في أوحال الذنوب والمعاصي، وينزه ساحته وهو الظالم الجاهل، الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:٧٢] {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:٦] والكنود هو: الكفور الذي يجحد نعم الله، ويعد المصائب وينسى النعم، هو الذي تنسيه الخصلة الواحد من الإساءة، الخصال الكثيرة من الإحسان، هذا هو الكنود.
هذا الظالم الجاهل لو تأمل في حال نفسه، لعلم بأنه هو الذي قعد على طريق مصالحه يقطعها عن الوصول إليه، هذا هو الحجر الذي يمنع تسرب الماء، وهذا هو الغي الذي يمنع شمس الهدى عن التدفق إلى القلب والسطوع عليه، فما أضر هذا الاعتذار السيئ على هذا العبد.
ما تبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه
هذا الجاهل نفسه تجني عليه، وهو يتضرر بهذه الأعذار القبيحة أكبر مما يتضرر من اعتداء الأعداء عليه، هذا الرجل ينادي ويقول: طردوني وأبعدوني، وهو الذي ولى ظهره إلى الباب؛ بل هو الذي أغلقه على نفسه، وأضاع المفاتيح وكسرها.
هذا الرجل الذي يعتذر بالقدر، يقول لله: أنت قدرت عليّ، أنا ليس لي حيلة، وهو الذي ولى ظهره إلى الباب، وكسر المفاتيح بعدما أغلق الباب، ثم يقول: طردوني وأغلقوا الباب دوني.
هذا الرجل الذي جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفيق وأخذ بحجزته عن النار، يريد أن يمنعه من التقحم في النار، وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحمها، ثم يقول: ما حيلتي وقد قدموني إلى هذه الحفرة وقذفوني فيها! ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد نصحه، وقال له: الحذر الحذر من الوقوع في هذه الحفرة! وبين له مصائر الذين تقحموا فيها قبله، وتلا عليه من الوحي كيف كان الكفار والفسقة والعصاة، وكيف أوردتهم ذنوبهم وكفرهم إلى حفر النار، وهو ينازع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يريد أن يمنعه من جهنم، ينازعه ويتقحم في النار، ثم يقول: هو الذي قذفني فيها.