[حفظ الدين بالعمل به وإقامة أركانه]
لقد حفظت الشريعة الدين، وجاءت بالوسائل الكفيلة لحفظه من جهتين أولهما: المحافظة على ما يقيم أركانه ويثبِّت قواعده.
ثانيهما: درء الفساد الواقع، أو المتوقع عليه، والمحافظة بدرء ما يحرفه أو يزيله.
فأما العمل بالدين -وهو الطريقة الأولى لحفظه وإقراره في الواقع- فإنه من المعلوم أن الله ما شرعه إلا ليُعمَل به، لا لتحفظ ألفاظه فحسب، ولا ليحفظ الكتاب رسماً فحسب، ولا لتحفظ السنة حروفاً وكلمات فحسب، وإنما شرع الله الدين لإقامته والعمل به، ولو حُفِظَت نصوصه وضيعت معانيها ولم يُلتزم بها؛ فلا نُعتَبر قد قمنا بشيء هو المطلوب منا، ولذلك كان حفظ الدين فرضاً علينا لا في نصوصه فقط، وإنما بالعمل به أيضاً، وبعض أعداء الدين يناسبهم أن يحفظ بعض الأطفال القرآن، ولذلك تراهم يتباهون به، لكن أن يُطَبَّق القرآن فهذا شيءٌ آخر.
والمسلم معنيٌّ بتطبيق الدين في واقع الحياة، ومن أقام الدين في نفسه فهو معين على إقامة الإسلام في الأرض، فإذا أقامه كل واحد قام الدين، والشريعة فيها واجبات عينية، وواجبات كفائية، فالواجبات العينية لا بد على كل إنسان أن يقيمها؛ كالصلاة مثلاً، والواجبات الكفائية لا بد أن تقوم بها الأمة بأجمعها، بحيث إذا أخلَّت به، أثم جميع أفرادها، فإذا كان الجهاد في الأصل فرض كفاية، فإذا حقق سلمت الأمة من الإثم، وإذا ضُيِّع أثم المسلمون جميعاً.
وحفظ الدين واجبٌ على كل إنسان مكلفٍ بإقامة أركانه وواجباته؛ كإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج، وغير ذلك من فرائض الإسلام العينية التي يجب أن يقام بها، ولأجل تكميل ذلك شرعت الشريعة المندوبات استحباباً للقيام بها، وترك المكروهات -أيضاً- من الدين للمحافظة على أصوله وخطوطه وقواعده.
ومن هنا ندرك -أيها الإخوة- الفرق بين المسلمين والإسلام، فأعمال المسلمين في ذاتها قد تكون صواباً، وقد تكون خطأً قد تكون حقاً، وقد تكون باطلاً، وأما الإسلام فلا يكون إلا حقاً غير محتملٍ للباطل، والعمل بالدين يؤثر في حياة الناس، وعندما يحصل الاختلال في التطبيق، والتغاير بين العمل والدين؛ فإن ذلك العامل بالخطأ لا يقال عنه: إنه عاملٌ بالدين، وكم شوهت هذه الأعمال من الدين، وكم منعت من الدخول فيه، وكل من يمارس عملاً خاطئاً متعمداً معلناً به فهو من الذين يصدون عن سبيل الله بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، حتى الذين يظلمون العمال الكفرة -مثلاً- فيظن هؤلاء الكفرة أن هذا هو الإسلام، فإن كل ظالمٍ لهم آثمٌ وصادٌ عن سبيل الله، وهكذا الذين يذهبون إلى بعض الأقطار من المسلمين يمارسون الفواحش، وبعضهم يمارسونها بين المسلمين، فهؤلاء الذين يعطون الصورة السيئة عن الإسلام بممارساتهم الخاطئة الآثمة هم من الذين يصدون عن سبيل الله هذا من جهة العمل به.
وأما الحكم به فهو ضرورة من ضرورات حفظه؛ لأنه لا يمكن أن يكون الدين محفوظاً إلا إذا صار هو الحاكم في الأرض، والله سبحانه وتعالى قد قيض العلماء ليبينوا للناس الإسلام، فيكون الدين محفوظاً من جهة بيانه ومعرفته، فإنه في كثير من الحالات لا يوجد دين عند بعض الناس، أو في بعض المجتمعات؛ لأنه لا يوجد علماء صدقٍ يُبينون الدين، ويُعلنون حلاله وحرامه، ويُظهرونَه، ويفتون في مسائله لماذا يضيع الدين عند بعض الناس؟ لأنه لا يوجد من أولي العلم من يقوم به ويبينه، ولذلك كان لا بد من الحكم بالدين، فالقاضي والعالم والمفتي الذي يحكم بالدين هو مقيم له في الأرض، ومبين له، ومعلنٌ به، والله تعالى يريد ذلك، وعندما يُحكَم بغير الإسلام فإن هذا إقصاءٌ للدين عن الحياة، وإحلالٌ للأهواء والآراء الشخصية محل دين الله، وأي تضييعٍ للدين أعظم من هذا؟! وأي جنايةٍ عليه أكبر من هذا؟! فعندما يحكم الإنسان بالإسلام ويحكم المسلمون به؛ فإنهم يكونون مطبقين وقائمين بالأمر، لأن الله قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤]؛ ولأن الله قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥].
فحفظ الدين في المجتمع بإظهار أحكام الإسلام وشعائره، وإقامه حدوده إقامة الحدود أمرٌ مهمٌ في بقاء الدين الحكم بالإسلام التراجع إلى المحاكم الشرعية إعادة القضايا إلى قضاة الشريعة، كل ذلك أمرٌ مهمٌ في إقامة الدين، والذين لا يعملون ذلك فهم مضيعون للدين، وإنما يخفى الدين بين الناس وبين العوام، لأن القضايا لا ترد إلى الشريعة.
والحكم بالدين وتطبيق أحكامه يسد الباب على أهل الكفر والضلال والانحراف عندما يحاولون نشر مذاهبهم؛ لأنهم لا يتمكنون من ذلك عند إقامة حد الردة في الأرض وفي المجتمع، لا يتمكنون من نشر كفرهم لا تحت ستار البحث العلمي، ولا تحت ستار الحرية الفكرية، وكثيرٌ من الكفر المعلن اليوم في الأرض يعلن تحت ستار البحث العلمي والرسائل الأكاديمية، أو تحت ستار الحرية الفكرية حرية اعتناق المذاهب والأديان والأفكار.