[علامات صاحب العلم النافع]
ثم إن ابن رجب رحمه الله في نهاية رسالته شرع يذكر علامات تدل على صاحب العلم النافع.
ما هي علاماته؟ ما هي أوصافه؟ قال: (من علامات ذلك: قبول الحق والانقياد له) فإذا كان لا يقبل الحق ولا ينقاد له ويتكبر ويُصّر على الباطل فهذا علمه ليس بالعلم النافع.
وكذلك من العلامات: إذا كان بعيداً عن الرياء لا يريد ثناء الناس ولا الرفعة بينهم، فهذا مخلص وعلمه نافع، فإذا كان يقبل المدح ويستجلبه، فمعنى ذلك أن علمه لم ينفعه.
فالصادق يخاف النفاق على نفسه، ويخشى من سوء الخاتمة، فلذلك كان من علامات أصحاب العلم النافع أنهم لا يرون لأنفسهم مقاماً، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح، ولا يتكبرون على أحد، لا يحسدون من فوقهم، ولا يسخرون ممن دونهم، ولا يأخذون على علمهم أجراً، هذه من علاماتهم.
ومن علاماتهم: أنهم كلما ازدادوا في هذا العلم ازدادوا لله تواضعاً.
ومن علاماتهم: أنهم يهربون من الدنيا ومن الرئاسة والشهرة والمدح ويتباعدون عن ذلك.
ومن علاماتهم: أنهم لا يدعون العلم ولا يفخرون به على أحد ولا يجهلون غيرهم، إلا الجاهل الحقيقي.
وكذلك فإنهم يتواضعون لمن سبقهم من أهل العلم ولا يخطئون السلف ولا يعتدون عليهم، تجد الآن العقلانيين يعتدون على السلف ويجهلون السلف، ويقولون: علمنا أشياء لم يعلمها السلف، وأين كان السلف عن كلامنا ونحو ذلك؟ فاحترام السلف ومدحهم، وعدم الكلام فيهم من القرون الثلاثة المفضلة، هذا من علامات أهل العلم النافع.
لما سُئل أبو حنيفة عن علقمة والأسود وهما من كبار السلف: أيها أفضل؟ قال: "والله ما نحن بأهل أن نذكرهم فكيف نفضل بينهم".
أي: أنا أستحي أن أذكر اسمه على لساني من علو منزلته وأنني دونه، أستحي أن أذكر اسمه فقط، فكيف أفضل بينهم؟
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
لا تقارن بيننا وبين السلف، ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد، فشبه السلف بالصحيح، وشبه نفسه بالمقعد.
ومن علمه غير نافع يرى لنفسه فضلاً على السلف وأنه فاقهم، وأنه أتى بكلام خفي عليهم ونحو ذلك.
ثم عاود التأكيد على أن القضية ليست تشقيق في الكلام والتفاصح في الألفاظ، قال: (فإن الحياء والعي -عدم القدرة على الكلام الفصيح- شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق) وإسناده صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث مرفوع.
وطبعاً هذا ليس على اطراده، فكم من السلف كان فصيحاً لكن لا يظن بالإنسان أنه إذا رأى من لا يستطيع أن يتكلم بفصاحة أنه جاهل، فقد يكون عالماً.
وخذوا مثالاً! الآن مثلاً الشيخ عبد العزيز بن باز كلامه ومنطقه وحروفه لا تُحس فيها بالحروف البليغة الفصيحة، وربما غيره فاقة كثيراً في قضية الألفاظ والسجع وجمال الأسلوب، لكن لا يعني أن الذي عنده أسلوب جميل أنه عالم، وأن الذي ليس عنده أسلوب جميل أنه جاهل! أبداً، بل إن الحديث يقول: (الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق).
قال: (فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام وكثرة الجدال والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عياً ولا جهلاً ولا قصوراً، وإنما كان ورعاً وخشية لله تعالى واشتغالاً عما لا ينفع بما ينفع).
فنسأل الله تعالى علماً نافعاً، ونعوذ به من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
هذا كان ملخصاً لما عرضه ابن رجب رحمه الله في رسالته العظيمة المحتوية على الأصول الجامعة النافعة لطالب العلم، بعنوان: (بيان فضل علم السلف على علم الخلف) والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.