ومما نتعلمه -أيها الإخوة- من سير علمائنا في مواقفهم العظيمة في الأخلاق: العفة والتعفف عما في أيدي الناس.
يقول عمر النسوي: كنت في جامع صور عند الخطيب البغدادي رحمه الله، فدخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير، وقال للخطيب: فلان -وذكر بعض المحتشمين من أهل صور - يسلم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك -أعطاه مالاً- فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه، وقطب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك، قال: قل له يصرفه إلى من يريد.
فقال العلوي: كأنك تستقله، ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها، وقال: هذه ثلاثمائة دينار! فقام الخطيب محمر الوجه! وأخذ السجادة ونفض الدنانير على الأرض وخرج من المسجد.
قال الفضل بن أبي ليلى: ما أنسى عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقق الحصر ويجمعها التعفف عما في أيدي الناس يؤدي إلى العزة، إنه موقف عظيم، وفيه تربية على التعفف والعزة.
وفي هذه المناسبة قصة المحاميد الأربعة المشهورة، لما جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني ومحمد بن إسحاق بن خزيمة بـ مصر، والمحدثون وعلماء الحديث فيها، فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلةً في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة، فاندفع في الصلاة، ماذا قال ابن خزيمة في صلاته؟ الله أعلم، كيف رغب إلى الله؟ الله أعلم، كيف لجوؤه إلى ربه؟ ربه يعلم، فإذا هم بالشموع وغلام من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا الباب، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو هذا، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا هو ذا، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقالوا: هو ذا فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة؟ فقالوا: هو ذا يصلي -في الصلاة- فلما فرغ دفع إليه الصرةً وفيها خمسون ديناراً، ثم قال: إن الأمير كان قائلاًَ بالأمس -أي: نائماً في الظهيرة- فرأى في المنام خيالاً يقول: إن المحامد -المحمدون هؤلاء الأربعة- طووا كشحهم جياعاً وهم عندك، فسأل: من هم المحمدون؟ من هم رفقاء محمدون؟ قالوا: هم الأربعة، فأرسل إليكم، وأقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه يمدكم بغيرها.
إن العفة عما في أيدي الخلق جلب لهم الرزق من الله عز وجل، برؤيا أراها الله ذلك الرجل؛ فحركته لتفقد حالهم.