[الدعاء]
وكذلك: الدعاء.
وهذه الوسيلة الثانية.
أيها الإخوة: إن من وسائل الوصول إلى منزلة العبد الشكور: الدعاء، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: (رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر هداي إلي، وانصرني على من بغى علي، اللهم اجعلني لك شاكراً -وفي رواية: شكاراً- لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً، إليك أواهاً منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهدِ قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي) حديث صحيح.
وعلم معاذاً دعاءً عظيماً، فقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ! لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك).
فالوصول إلى منزلة العبد الشكور لا بد فيها من الاستعانة بالله والدعاء والالتجاء، وإلا فهي منزلة صعبة، وسليمان قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ الآية} [النمل:١٩] فبدون المعونة من الله لا يمكن أن يصل الإنسان إلى منزلة العبد الشكور.
ومن الأمور التي ينبغي معرفتها: أن الشكر يحفظ النعم، قال الله سبحانه وتعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧] فهو ليس فقط يحفظ النعمة وإنما يزيدها، ولذلك كانوا يسمون الشكر: الحافظ، يعني: الحافظ للنعم الموجودة والجالب للنعم المفقودة.
وقال عمر بن عبد العزيز: [قيدوا نعم الله بشكر الله].
وقال أيضاً: [الشكر قيد النعم].
وقال مطرف بن عبد الله: [لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر].
ومن الأشياء التي يبلغ بها العبد درجة الشكور: أن يحدث بنعم الله عليه، قال الله عز وجل: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:١١].
وتحديث العبد بنعمة الله عليه له عدة معانٍ: منها: أن يرى أثر النعمة عليك، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الصحابة: (إذا أنعم الله على عبدٍ نعمة فإنه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، كلوا واشربوا وتصدقوا في غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قشف الهيئة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لك من مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال؛ قد آتاني الله من الإبل والخيل، والرقيق والغنم، قال: فإذا آتاك الله مالاً فليُر عليك).
وقد جاء في الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته).
وقال في الحديث الصحيح الآخر: (إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر النعمة عليه من غير سرف ولا مخيلة) لا اختيال ولا إسراف، أظِهر النعمة ولا تكتمها، لكن من غير إسراف ولا اختيال، لا تظهرها إلا بهذين الشرطين، (إن الله إذا أنعم على عبدٍ نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).
ولذلك قال بعض السلف: [لا تضركم دنياً شكرتموها].
فلو أظهرت النعمة وأنت شاكر لها فإنها لا تضرك بإذن الله.
وقد ذم الله الكنود من العباد فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ الْإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:١ - ٦].
قال بعض المفسرين: الكنود: الذي لا يشكر نعم الله، وقال الحسن رحمه الله عن الكنود: [الذي يعد المصائب وينسى النعم] إذا جلست معه قال لك: صار لي مصيبة كذا وكذا وكذا، ولا يحدث ولا يذكر شيئاً من نعم الله، كاتم لنعم الله، لا يحدث إلا بالمصائب والمعايب، ولا يقول: إن الله أعطاني كذا وأعطاني كذا، ومَنَّ علي بكذا، وآتاني كذا، كما جاء في وصف النساء التي جاء من أسباب دخولهن النار قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط) فلماذا دخلت النار؟ بترك شكر نعمة الزوج، فشكر نعمة الله أولى وأحق، فهذه التي تدخل النار بسبب كفران نعمة الزوج، فلأن يدخل العبد النار بكفران نعمة الله أولى، هذه المرأة من أسباب دخولها النار كفران نعمة الزوج؛ لأنها تنسى كل حسناته، وتقول: ما رأيت منك خيراً قط، ولا تذكر له إلا عيوبه، فالعبد إذا كتم نعم الله ولم يذكر إلا المصائب فهو أحرى بأن يدخل النار من المرأة التي تكفر نعمة زوجها؛ لأن الله هو المنعم الحقيقي، ولذلك جاء في الحديث: (التحدث بالنعمة شكر وتركها كفر).
ورأى بكر بن عبد الله المزني حمالاً عليه حمله وهو يقول: الحمد لله أستغفر الله، الحمد لله أستغفر الله، الحمد لله أستغفر الله، وهكذا، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره، وقلت له: أما تحسن غير هذا؟ -غير الحمد لله أستغفر الله- قال: بلى.
أحسن خيراً كثيراً أقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمة وذم، فأحمد الله على نعمه وأستغفره لذنوبي، فقال بكر: الحمال أفقه مني.
ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على الجن سورة الرحمن وقرأها على الصحابة، فسكت الصحابة، فقال عليه الصلاة والسلام: (قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن رداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:١٣] قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فَلَكَ الحمد).
فقهاء الجن قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد، يذكر لهم في سورة الرحمن كل شيء؛ أنه خلقهم، وأنزل لهم الميزان، وجعل لهم الأنهار والبحار، وجعل لهم السفن، وجعل لهم أشياء كثيرة جداً، وبعد ذكر كل نعمة يقول: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:١٣].
والنعم كثيرة جداً، وشكرها ينساه كثير من الناس، وبعض المغفلين من الصوفية عندهم مبادئ عجيبة في هذا، حيث قال أحدهم: أنا لا آكل الخبيص؛ والخبيص: نوع من أنواع الحلوى، فقيل له: لماذا؟ قال: إني لا أقوم بشكره، فقال الحسن: "هذا أحمق، وهل يقوم بشكر الماء البارد؟! " ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء البارد؟!) رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً، وهو حديث صحيح.
حتى الماء البارد الذي نشربه نعمة سنسأل عنها يوم القيامة، فكيف ننجو من تبعة السؤال؟ بأن نشكر نعم الله كلها ظاهراً وباطناً.
وكان أبو المغيرة -رجل من السلف - إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: "أصبحنا مغرقين في النعم، عاجزين عن الشكر، تحبب إلينا ربنا وهو غني عنا، ونتمقت إليه ونحن إليه محتاجون " هو أحسن إلينا وهو غني عنا، ونحن نعصيه ونحن محتاجون إليه!.
وقال يونس بن عبيد: قال رجل لـ أبي تميمة: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيتهما أفضل: ذنوب سترها الله علي فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغه عملي -أنا دون ذلك-.
(ودعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعض الصحابة: فانطلقنا معه، فلما طعم وغسل يديه قال: الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، منَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاءٍ حسنٍ أبلانا، الحمد لله غير مودع، ولا مكافأ، ولا مكفور، ولا مستغنىً عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من الثياب، وهدى من الضلالة، وبصر من العمى، وفضل على كثير من خلقه تفضيلاً، الحمد لله رب العالمين) حسنه بعض أهل العلم.
هذه قضية مهمة؛ وهي قضية شكر النعم والتحدث بها دائماً، قال بعض الناس: نحن إذا تحدثنا بالنعم أصابنا الحسد والعين، فماذا نفعل؟ نقول: أولاً: إذا كان الذي أمامك معروف بالحسد فهذا لا يعني أنك تقول النعم التي جاءتك، وتستجلب حسده وإصابته لك بالعين؛ هذا إذا كان حسوداً، أما في الأحوال العادية الطبيعية فأنت تذكر نعم الله عليك.
ثانياً: إن الحسود والعائن إذا رآك تحمد الله على النعم العامة، تقول: الحمد لله على ما أنعم به عليَّ من جميع النعم؛ فإن هذا الشيء العام لا يستجلب العين والحسد.
ثالثاً: هناك أدعية تقي من العين والحسد؛ كقراءة المعوذات بعد الصلوات، وقبل النوم، وفي الصباح والمساء.
وكذلك فإن هناك بعض الأمور، مثل أن تكتم: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) فيجب ألا نخلط بين شكر الله وحمده على النعم، وبين ذكر بعض الأشياء التي تستجلب الحسد عند العائنين أو الحساد إذا كانوا موجودين، فهل يلزم أن نشكر أمام الناس؟ أم أنه يمكن أن يكون الشكر سراً بينك وبين الله، لا يوجد حاسد ولا عائن؟ يمكن أن يكون بينك وبين الله، فإذا خلوت بنفسك فاحمد الله على نعمه، ولا يشترط أن تأتي بين الناس فتقول: عندي كذا مال، وعندي كذا شركة، وعندي كذا وكذا وفي المجلس من الحساد، لكن بين إخوانك وأصحابك فأنت تذكر نعم الله عليك، ثم إن هناك من النعم كما قلنا ما يستجلب الحسد في العادة والعين، فالله عز وجل لما قال لنبيه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:٦ - ٨] قال له في آخر السورة: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ف