التوحيد والهوى متضادان، كما قال ابن القيم: فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه حتى في هواه، وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكسر الأصنام وعبادة الله، وليس مراد الله سبحانه وتعالى كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً -لاحظ العبارة- الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لكسر الأصنام، هناك أصنام في القلب، وأصنام في الواقع، فمن القصور الشديد تكسير الأصنام التي في الواقع وفي الخارج وترك الأصنام التي في الداخل، وكل واحد عنده هواه صنماً في قلبه يعبده ويتبعه، يتبع هواه، ولذلك قالوا: صنم كل إنسان هواه، وتأمل قول الخليل لقومه:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[الأنبياء:٥٢] كيف تجده مطابقاً للتماثيل التي يهواها القلب؟ {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}[الفرقان:٤٤] وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}[الأعراف:١٧٥ - ١٧٦] وسنأتي على شرح هذا المثل إن شاء الله.
فاتبع هواه في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات والنذر فمثله في الخسة كمثل الكلب في أخس أحواله، وفي عدم التأثر بالمواعظ والبقاء على الضلالة، إن تحمل عليه وتزجره يلهث، أو تتركه من غير زجر يلهث، ولذلك قيل: كل حيوان يلهث من تعبٍ أو عطشٍ سوى الكلب فإنه يلهث بكل حال من الراحة والشدة والعطش والشبع والري والجوع، الكلب يلهث في كل حال، قال: وكذلك متبع هواه يلهث على غرض نفسه، ويتعطش إلى الدنيا وإلى الحظ العاجز ولا يلتفت إلى الوعظ ولا إلى غيره, فانظر حب الدنيا ما يفعل بالعلماء:{آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا}[الأعراف:١٧٥] عالم {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}[الأعراف:١٧٥ - ١٧٦] نزول هائل جداً، من عالم إلى كلب.
كيف ولماذا؟ آتيناه آياتنا لكنه أعرض عنها وانسلخ، والسلخ الفصل التام وانظروا إلى التعبير القرآني! انسلخ بحيث لا تقع مماسة مع أي شيء انسلخ {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ}[الأعراف:١٧٦] هذا الانحدار كيف يصبح قبيحاً جداً، فعلى الإنسان ألا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه، فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع الضرر ومواقع المنجى، وترى بعض الحيوانات لا يأكل أشياء؛ لأنه يعلم أن هذا ضرر عليه إن أكله، والإنسان قد أعطي عقلاً فالواجب عليه أن يميز بين ما يضره وما ينفعه، وكيف يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه؟ والبهيمة تصيب من لذة المطعم والمشرب والمنكح ما لا يناله الإنسان مع عيشٍ هنيءٍ خالٍ عن الحزن والهم، البهيمة لا تصوم في الحقيقة، ولا تعاني من هم ولا غم، ولذلك تساق إلى منحرها وهي منهمكة على الشهوات لفقدان العلم بالعواقب، ولا تعرف ماذا يحدث بعد الذبح؟ والآدمي لا يناله ما ينال الحيوان لقوة الفكر الشاغل، فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس منه حق الآدمي الذي هو خلاصة العالم ولأعطي الإنسان من القوة للشهوات كالبهيمة وأكثر من ذلك.
ثم لنتأمل حديث الصحيحين في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله نحن نتكلم عن الهوى في النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، وعرفنا ماذا قال تعالى في موضوع الهوى وعرفنا قول الله:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}[الفرقان:٤٣] ثم عرفنا من مثال الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه، نأتي على حديث في الصحيحين في موضوع الهوى ونتأمل الأحوال التي تتعلق بالهوى، وموقع ابن آدم منها:(سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) إذا تأملت السبعة كما يقول ابن القيم رحمه الله الذين يظلهم الله في العرش يوم لا ظل إلا ظله، وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى فإن الإمام العادل صار عادلاً عندما خالف هواه، وإلا لبطش وسرق ونهب وضرب، والشاب المؤثر لعبادة الله نشأ في طاعة الله، وما استطاع أن يصل إلى هذا إلا بمخالفة هواه، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد لولا مخالفة هواه لصار قلبه معلقاً بالمسارح والأغاني والأسواق، وصور النساء والأشكال الجميلة، وكذلك المتصدق لولا مخالفة هوى النفس الداعية للشح والبخل ما أخرج، فكيف وقد أخرج إخفاءً حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وذلك الذي دعته المرأة الجميلة فخالف هواه مخافة لله، وهذا الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه إنما أوصله إلى هذه المرحلة التي يخشع بها لهذه الدرجة مخالفة الهوى.
فلذلك كان حر الموقف بعيداً عنه، وشدة الموقف زائلة عن هؤلاء.