[بين حقيقة الربح وصورته]
الربح في المنظور الدنيوي يعني أن تحصل الزيادة على رأس المال، وكلما كانت الزيادة أكثر كنت في المنظور البشري رابحاً أكثر، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:٢٠٧] ولهذا سبب نزول، قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة: [نزلت في صهيب بن سنان الرومي، وذلك أنه لما أسلم بـ مكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، وذهب إلى المدينة، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف المدينة في الحرة، فقالوا: ربح البيع، فقال: وأنتم، فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية].
وروى ابن مردويه كما ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى عن أبي عثمان النهدي (عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت لي قريش: يا صهيب! قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك؟!!) -مستحيل لا يمكن، جئتنا فقيراً صعلوكاً، فاشتغلت عندنا بـ مكة وحصلت أموالك، ثم تريد أن تخرج الآن إلى المدينة أنت ومالك، (والله لا يكون ذلك أبداً، فقال لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي، تخلون عني، قالوا: نعم) -إنهم أناس دنيويون يأخذون المال ويتركون الشخص- (فدفعت إليهم مالي، فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ربح صهيب ربح صهيب!) وفي رواية: (ربح البيع ربح البيع).
ترك كل الممتلكات والأموال وما بقي له شيء، خرج بثيابه فهذا يعتبر عندنا خسراناً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ربح البيع، ربح صهيب) والله ينزل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:٢٠٧].
إذاً عند الشارع كونه يهاجر ويترك بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وينصر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويذهب ليقيم في المدينة، ويتعلم العلم ويجاهد مع الصحابة، ولو خسر كل ماله، فإن ذلك هو الربح الحقيقي، فانظروا -رحمكم الله- إلى الفرق بين الميزان الإلهي والميزان البشري، ونحن يجب علينا أن نتحرر من هذه الموازين الأرضية، وأن نسلك سبيل الموازين الشرعية.
لما استقرت هذه الحقيقة في نفوس الصحابة تصدقوا بأموالهم، فهل عرفتهم أحداً يذهب اليوم إلى رصيد ماله في البنك، وينظر ماذا في الرصيد، مائة ألف مثلاً يأخذ خمسين ألفاً ويتصدق بها (نصف المال)؟ لا نقول: مستحيل، لكن ليس أمراً معروفاً على الإطلاق.
الصحابة لما استقرت في نفوسهم قضية الموازين الإلهية، والنظرة الشرعية إلى الأمور؛ أبو بكر تصدق بماله كله، وعمر تصدق بنصف ماله، وأبو طلحة كان أكثر الأنصار بـ المدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد (موقع استراتيجي) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها، وبها ثمار يانعة وماء طيب وموقع مهم، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:٩٢] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:٩٢] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، -أنفس مال عندي- وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله).
ذهب إلى العالم ليتصرف له بالمال، لأن العالم يعرف أكثر من الغني أي المجالات أكثر أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح!) رجل ذهب أنفس ما عنده من المال أين الربح؟! وهذه القصة في البخاري.
وروى أحمد وهو حديث صحيح أن أبا الدحداح باع حائطه كله بنخلة، لأنه سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لرجل: (أعطها إياه بنخلة في الجنة) أي: ليتيم كان ينازعه فيها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب النخلة: (أعطه النخلة ولك نخلة في الجنة فرفض، فسمع أبو الدحداح فقال: أعطيك بستاني كله بهذه النخلة، فوافق -صفقة ممتازة ورابحة- فأعطاه وبادله، وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله! قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: اجعلها له).
إذاً: لا الثمن ولا السلعة، ما بقي عنده شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: (كم من عذق رداح لـ أبي الدحداح في الجنة قالها مراراً) قال: فأتى امرأته فقال: (يا أم الدحداح! اخرجي من الحائط -من البستان- فإني قد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها).
إذاً الرجل والمرأة البيت المسلم تأسس على هذا الأساس، على أساس الأخذ بالميزان الشرعي، وبما عند الله لا بما عند الناس، فالمرأة قالت: صفقة رابحة، اعتبرتها رابحة ووافقت زوجها.
أنت إذا ذبحت شاة وتصدقت بجزء منها وبقي لك جزء ما هو معيارك في النظر إلى الشيء الباقي والشيء الذاهب؟ الشيء الذي تصدقت به ذهب، والذي بقي هو ما عندك حقيقة، لكن عند الله تعالى المسألة تختلف، روى الترمذي عن عائشة: (أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: ما بقي منها؟ فقالت: ما بقي منها إلا كتفها -تصدقنا بكل الشاة المذبوحة ما أبقينا إلا الكتف، لأنها تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب الكتف- فقال عليه الصلاة والسلام -العبارة العظيمة-: بقي كلها غير كتفها) وذلك لأن الكتف سيؤكل بعد قليل ويذهب، إذاً ما الذي بقي حقيقة؟ الذي تصدقوا به هو الذي بقي.
إذاً: هو هذا المعيار الشرعي، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) عند الله هذا هو المفلس.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بدينه فقهاء، وأن يجعلنا بأحكامه عالمين، وعلى سنة نبيه سائرين، وبحبله مستمسكين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.