[الشنقيطي في أرض الحجاز]
سافرنا في العشر الأواخر من ذي القعدة من سنة (١٣٦٧) هـ متوجهين إلى سواكن، فبتنا دونها، وجئناها من الغد فنزلنا في خيم مبنية للحجاج، وأخذنا جوازات السفر إلى الحجاز، وما توصلنا إلى أخذها حتى تعبنا من الزحام في المركز لكثرة الحجاج المزدحمين لأخذ الجوازات، وكان بواب المركز يُدخل قبلنا كثيراً من أخلاط الناس من أسود وأحمر ونحن جئنا قبلهم، فذكرني ذلك قول عصام بن عبيد الزماني:
أدخلت قبلي قوماً لم يكن لهم في الحق أن يدخلوا الأبواب قدّامي
أي: هذه شغلة الواسطات، دخل ناس قبلنا ونحن واقفون، ثم بعد أن تحصلنا على أخذ الجوازات وبعد أن سلمنا الرسوم المقررة مكثنا في محل النظر في صحة الحجاج ثلاثة أيام، ثم ركبنا في السفينة متوجهين إلى جدة، فمكثت السفينة بنا يوماً وليلة في البحر، ثم نزلنا من الغد في جدة في بيت لآل جمجوم عمومي لنزول أهل قطرنا -أي: هذا البيت مخصص للشناقطة ينزلون فيه- فمكثنا ليلتين في جدة، ولم نجتمع بأحد من أهلنا، لكن اجتمعنا برجل سوداني موظف في بعض الشركات اسمه أحمد بكري، فأحسن إلينا وحملنا إلى مكة المكرمة بواسطة رجل طيب من موظفي إدارة الحج، فركبنا من جدة بعد صلاة المغرب، محرمين ملبين تلبية النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، وكان إحرامنا بالحج مفرداً.
الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان في سورة الحج، تكلم على أنواع النُسك، ونصر القول بالإفراد نصراً عظيماً وأتى له بالأدلة وحشدها حشداً يكاد القارئ له أن تزول قناعته باستحباب التمتع، ولكن مذهب جمهور أهل العلم كما هو معروف أن التمتع هو الأفضل لكن من أراد أن يَنظر في تقرير استحباب الإفراد فعليه بما كتبه الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان.
وبعد ذلك نزل رحمه الله في منى بجانب بعض الخيام، وسأله بعضهم عن مسائل متعلقة باللغة والشعر، وحصلت مباحثات أيضاً فقهية وغيرها، قال: ثم سافرنا من مكة المكرمة بعد أن اعتمرنا من التنعيم وطفنا وقت السفر طواف الوداع، ودعونا الله ألا يجعل ذلك آخر عهدنا ببيته الحرام، فبتنا ليلة في جدة، وتوجهنا إلى المدينة وركبنا في سيارة ومالكها معنا وهو يحفظ القرآن العظيم وعرض علينا في الطريق أجزاء عديدة من القرآن، أي: حفظاً، هذه قراءة العرض، ولا بأس بقراءته وحفظه، ووقفت بنا السيارة بعد المغرب في محطة اسمها ذُهْبَان، ثم مرت بنا على محطة اسمها: توَل هذه يسمونها الآن البادية، تول بإسكان التاء وغيرهم والحاضر يقولون تُول، ووقفت فيها قليلاً ثم سارت بنا إلى البلدة المعروفة رابغ وذكر قول الشاعر هنا:
فلما أجزنا الميل من بطن رابغ بدت نارها قمراء للمتنور
ولما أضاء الفجر عنّا بدت لنا ذرى النخل والقصر الذي دون عزور
فإذاً هذا موضع آخر عزور هذا في الطريق، وكان كلما جاء إلى مكان، هو يراه لأول مرة، ولكن اسم المكان معروف عنده من شواهد العرب من قبل، فكل ما جاء على بلد وعلى مكان يتذكر ما قيل من الشعر في هذا المكان، قال: ووجدنا غالب الطعام الموجود فيها لحم السمك، وقال: ثم ذهبنا في تلك الليلة من رابغ بعد ظرف قليل من الزمن، صعدت بنا السيارة جبلاً عُبدت فيه الطريق للسيارات فقال لنا صاحب السيارة: هذا الجبل اسمه هرشى، فتذكرت قول الشاعر:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
وأخبرته أنه يُروى، وهذا السفر طبعاً يقطع بمنح وبأشياء وملح وطرائف، فأخبرتهم أنه يروى عن بدوي من الأعراب أنه قرأ سورة إذا زلزلت، وقرأ فيها فمن يعمل مثقال ذرة شراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، فقالوا له: قدمت المؤخر وأخرت المقدم، أي: الآية، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:٧] الخير أولاً ثم الشر، فقال لهم:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
قال هذا من جهله وجفائه.
ثم عرّجنا آخر الليل بين جبال كثيرة وأخذنا هجعة لنستريح، فما استيقظنا حتى اتضح الصبح فتوضأنا، وصلينا الرغيبة وفرض الفجر وركبنا في محطات متعددة، وذكر بعض هذه المحطات إلى أن وصل أبيار علي، حصل للسيارة عائق إلى صلاة العشاء خلصت منه وتقدمت إلى المدينة، وصلوا المسجد النبوي وقد أغلقت أبوابه وانصرف الناس عنه كالعادة، فلم يُقدر لهم صلاة في تلك الليلة في المسجد النبوي.
ثم نزلوا عند الشيخ محمد بن عبد الله بن آد، فتلقانا بالبشر والسرور ولم نُدرك ذلك اليوم صلاة الصبح مع الجماعة، لأننا لم نستيقظ من شدة تعب السفر حتى ضاق الوقت، فصلينا الرغيبة وفرض الصبح في محلنا لضيق الوقت، ولما ارتفعت الشمس وحل النفل -وصارت صلاة النفل جائزة- ذهبنا الحرم المدني.