المدلس: وأشار إليه بقوله: تدليس، والحديث المدلس سُمي بذلك لكون الراوي لم يسم من حدثه، فأوهم أنه سمع ممن لم يحدثه به؛ وهو أنواع: فلو أن الراوي وصف شيخه بصفة، أو سماه باسم لا يُعرف به هذا الشيخ، فهذا تدليس الشيوخ، لماذا يفعل بعض الرواة هذا؟ لماذا يسمون شيوخهم بأسماء غير معروفة وغير مشهورة؟ إما لقصد سيئ من المباهاة، وإيهام تكثير الشيوخ، فمرة يقول: أبو عبد الله المصري، ومرة يقول: محمد كذا، وهو نفسه شخص واحد، أو أن الشيخ صغير السن وهذا الراوي يأنف أن يحدث عن شيخ صغير السن، أو من هو في مثل سنه، أو من هو أصغر منه، فيأتي باسم غير مشهور أو غير معروف لهذا الشخص.
أو أن الشيخ ضعيف فهذا لو ذكره باسمه، مثلاً: لو قال: حدثنا عطية العوفي، لقالوا: قف، هذا حديثك ضعيف، عطية ضعيف، لكن يسميه باسم آخر: أبو فلان كذا، فيتوهم السامع أن هذا شخص آخر ولا يخطر بباله أن هذا هو الضعيف، فقد يسميه باسم غير اسمه، أو يكنيه بغير كنيته، أو ينسبه إلى غير نسبته، أو إلى غير قبيلته، أو يذكر له صفة غير صفته، ونحو ذلك تعمية وتدليساً.
وهناك تدليس الإسناد، وهو أن يروي بعض الرواة عمن لقيه وسمع منه حديثاً ليس من مسموعاته منه، فهو قد سمع منه أحاديث معينة، لكنه يروي لنا عن الشيخ هذا حديثاً لم يسمعه منه، فالناظر في السند أول ما يتوهم يقول: نعم فلان سمع من فلان، وهذا من شيوخه فإذن هذا سمعه منه، مع أنه في الحقيقة قد سمع منه أحاديث ولقيه، لكن هذا الحديث بالذات ما سمعه منه، إنما سمعه بواسطة عنه فيحذف الواسطة ويقول: عن فلان، موهماً أنه سمع منه، والتدليس لا يجوز.
فيحرم عليه أن يسمع من ضعيفٍ عن الشيخ فلان فيحذف الضعيف ويقول: عن الشيخ فلان؛ وهذا لا شك أنه تدليس شنيع جداً، ولذلك قال شعبة: لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس؛ لأنه يوعر الطريق على العلماء لاكتشافه، ولأنه يوهم أن الحديث سنده صحيح وليس كذلك، ويُروج لهذا الحديث ويأخذ به من يأخذ منخدعاً ونحو ذلك، فالتدليس أخو الكذب.
وتدليس التسوية -وهو شر أنواع التدليس على الإطلاق-: أن يروي حديثاً عن شيخه الثقة، وهذا الشيخ الثقة يرويه عن ضعيف عن شيخ آخر ثقة فيأتي المدلس فيسقط الضعيف بين الثقتين ويقول: حدثني فلان -الذي هو الثقة- عن فلان الثقة الآخر وبينهما ضعيف أسقطه هذا المدلس؛ فيصبح السند أمام الناظر سنداً جيداً ليس فيه بأس، فإذا كان هذان الثقتان قد تلاقيا فكيف تكتشفه؟ يقول: حدثني فلان وهو ثقة عن فلان ثقة وبينهما راوٍ ضعيف أسقطه هذا المدلس؛ وهذا الثقة قد سمع من الثقة الآخر وعاصره، فمن ذا الذي يكتشفه؟ فلذلك عدوا هذا شر أنواع التدليس لصعوبة اكتشافه، لكن هيأ الله للأمة من يكتشف هذا وغيره، ويكون الإسناد مستوياً في هذه الحالة أمامك، كلهم ثقات قد لقي بعضهم بعضاً وسمع بعضهم من بعض، والتدليس مذموم ومردود وهو أخو الكذب، لكن قد حفظوا لنا أمثلة عن ناس لم يدلسوا إلا عن ثقات، يُسقط راوياً ثم يكتشف العلماء أن هذا كلما أسقط راوياًَ فإن المسقط ثقة، ولا يكاد يعرف بهذا إلا سفيان بن عيينة رحمه الله، فإنه لا يدلس إلا عن ثقة، ولذلك فإن تدليسه محمول.