[التغلب على مشاعر الإحباط لاستدراك ما فات]
من الأمور المهمة في علاج ما فات -ونتكلم عن بعض الأمور التربوية- أنه لابد من التغلب على مشاعر الإحباط التي تعتري الشخص المقصر، خصوصاً عندما يأتيه شيطان فيقول: لا فائدة! فما فعلته في الماضي لا سبيل إلا إنقاذ نفسك من تبعته ومسئوليته، ولا تستطيع أن تعوض.
فلا يجوز أن يشعر الإنسان بمشاعر الإحباط حتى تسيطر عليه وتقعد به عن محاولة التقدم وتعويض ما فات.
بعض الناس إذا استعرض في ذهنه الأشياء الذي فاتته وجدها كثيرة جداً فيستعظم ذلك، وقد نهينا عن (لو) التي تفتح عمل الشيطان؛ لأنها تسبب القنوط واليأس الذي لا فائدة منه، بل يضر.
إن تحقيق الأماني لا يكون بالندم على ما فات، ولا باجترار الأحزان على الماضي، وهو الندم السلبي؛ -لأن هناك ندم إيجابي كما سيأتي- وإنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة.
بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العز في نيل الفرص
فابتدر مسعاك واعلم أن من بادر الصيد مع الفجر قنص
أما إضاعة الحاضر بالاستسلام للأوهام والأشياء التي حصلت في الماضي، والانسياق وراء وساوس الشيطان فإنها ضارة للغاية.
أفنيت يا مسكين عمـ ـرك في التأوه والحزن
وقعدت مكتوف اليديـ ـن تقول حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنـ ـت فمن يقوم به إذن؟
من المهم -أيها الأخوة- أن ننظر في أحوالنا، ونصحح المسيرة، ونستدرك ما فاتنا، ونحاسب أنفسنا بحسب الإمكانات، ولا يمكن أن تكون محاسبة طالب في تخصص شرعي في مسألة طلب العلم كمحاسبة الموظف الذي له دوامان أو دوام طويل، لأن الإمكانات تختلف، فما يفوت هذا أعظم مما يفوت ذاك، وما ينبغي أن تكون عليه الدرجة في المحاسبة أشد في حق طالب العلم المتفرغ.
ثم لابد من إزالة الحواجز النفسية التي تمنع الاستدراك، كأن يقول: أنا كبرت، وذاكرتي قد ضعفت فلا فائدة الآن من حفظ المتون وطلب العلم في حالتي.
نقول: يا أخي! بعض الصحابة أنتجوا في أعمار متأخرة، وبعضهم ما عاشوا إلا أشهراً قلائل وعلموا أشياء كثيرة جداً، ثم استحضار قصص الذين طلبوا العلم متأخرين، بعضهم ما طلب العلم إلا بعد الأربعين وأصبحوا علماء، فـ ابن أبي ذئب طلب العلم متأخراً، وكان يقارن بـ مالك، وقالوا: لو طلب العلم مبكراً لما قورن به مالك ولا كان قريباً منه، رضي الله عنهم جميعاً ورحمهم.
وإذا نظرنا في حال بعض العلماء كيف استدركوا الأمور وكيف تقدموا، لوجدنا أمراً عظيماً! ابن حزم رحمه الله طلب العلم بعدما بلغ السادسة والعشرين وابن حجر رحمه الله مرت عليه سنوات لم يكن يطلب فيها الحديث، حتى كان ينشد شعراً فسمعه شخص فقال: ليس هذا من شأنك، هذا لا يليق بك، فانصرف إلى الحديث.
الذهبي رحمه الله قال: رأى خطي رجل، فقال: إن خطك يشبه خط المحدثين، فوقع في نفسي طلب الحديث.
ابن القيم رحمه الله مضى فترة من عمره مع الصوفية، ثم رجع وصار العلم العظيم، يقول:
يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفق وأخ لكم معوان
جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني
حبر أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران
فالله يجزيه الذي هو أهله للجنة المأوى مع الرضوان
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثاراً عظيماً شأنها محجوبة عن زمرة العميان
لا تقل: فاتتنا المرحلة الذهبية في طلب العلم، فاتتنا مرحلة الذاكرة القوية، ولا فائدة، فهناك من طلب العلم متأخراً وأفلح، وهذا عبد الصمد شرف الدين ذكر في مقدمة تحقيقه لـ تحفة الأشراف أنه ما طلب العلم إلا بعد الأربعين.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جاء إلى شيخه السندي في المدينة فرأى الناس يطوفون بقبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مقتبل عمره، فقال لشيخه السندي: ما تقول في هؤلاء؟ قال: إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، ولكن من يقوم لهم؟ قال الشيخ: فوقعت في نفسي.
أحياناً كلمة من عالم موجه، من مربٍ فاضل، أو قدوة، تغير مجرى حياة الإنسان، وحتى لو ذهبنا بعيداً بين الشعراء هذا النابغة الذبياني ما قال بيتاً من الشعر إلا بعد أن بلغ الأربعين.
أيها الأخوة: بعض الناس فاتهم حفظ القرآن، فلما تقدم بأحدهم العمر قال: لا سبيل إلى حفظه وقد ضعفت الذاكرة، نقول له: راجع ما حفظته يا أخي، واسع للحفظ من جديد، بعض الناس حفظوه بعد الأربعين، وهناك امرأة كبيرة في السن حفظت القرآن في سنة ونصف، من كثرة سماعه ومواظبتها وحرصها وسعيها، فتحت الشريط وهي تغسل الصحون في المطبخ، ذهبت مركز تحفيظ القرآن فتأثرت، وأحضرت أشرطة القرآن، وهي في المطبخ تستمع الأشرطة، تستمع وتستمع حتى حفظته في سنة ونصف، ولو كانت أمية فإنها تحفظ من الأشرطة.
فالإنسان إذا كان صاحب همة يستدرك ما فاته مهما كان، ويمكنه أن يعمل أشياء كثيرة جداً، مثلاً: عدد من الطلاب ندموا أنهم لم يكونوا يكتبون الفوائد والنفائس، ويقيدون الأفكار والخواطر، وذهب الموضوع من ذهنهم وضاع التحضير، لأن النقاط كانت في ورقة صغيرة وضاعت، فيقول: لا فائدة قد ذهب الكثير، نقول: قيد الآن، ابدأ من جديد، قيد ورتب وفهرس.