[أويس القرني وإخفاء نفسه]
إخفاء العمل أمرٌ مهمٌ فقد كان السلف يحرصون عليه رحمهم الله تعالى، وسنسوق بعض الأمثلة على ذلك: ومن أعظم من كان يمثل هذا المعنى أويس القرني رحمه الله تعالى، هذا الرجل عجيب وسيرته عجيبة! ومع إخفاء الرجل لنفسه إلا أن الله أبقى لنا ذكره، فنحن نقتدي به ونتأثر من سيرته، قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير التابعين رجلٌ يقال له: أويس وله والدة، وكان به بياض -يعني: برص- فأذهبه الله عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم، فليستغفر لكم) رواه مسلم.
وفي روايةٍ لـ مسلم: (له والدةٌ هو بها بر) من أسباب سعادة الرجل هذا بره بأمه لو أقسم على الله لأبره، هذا الرجل من أهل اليمن، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، قال عمر لـ أويس: فاستغفر لي، فاستغفر له، قال عمر: أين تريد؟ -هو خارج من اليمن مع الأمداد إلى الجيوش الإسلامية في الشمال في الشام والعراق - قال عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها -وصية أعطيك توصية- قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان العام المقبل حجّ رجل من الناس من تلك الناحية التي ذهب إليها أويس، فسأله عمر عن أويس قال: تركته رثَّ البيتِ قليل المتاع، ثم جاء الرجل هذا إلى أويس -ذهب إلى أويس - فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدثُ عهدٍ بسفرٍ صالح، فاستغفر لي أنت، فـ أويس يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عنه: (يا أيها الناس اطلبوا من أويس أن يستغفر لكم) وعندما قال له هذا الرجل هذا: يا أويس! استغفر لي، قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت حديث عهدٍ بسفرٍ صالح، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهدٍ بسفرٍ صالح، قال: استغفر لي، قال أويس: لقيت عمر، قال: نعم.
فاستغفر له ففطن له الناس فانطلق على وجهه واختفى.
هذه رواية مسلم أيضاً.
وفي رواية للحاكم: لما أقبل أهل اليمن جعل عمر رضي الله عنه يستقرئ الرفاق - عمر حافظ للحديث فمنذ زمن والحديث في ذهنه، عمر يريد أن يعرف الرجل- فيقول: هل فيكم أحدٌ من قرن، حتى أتى عليه قرن، فقال: من أنتم؟ قالوا: قرن، فرافع عمر بزمامٍ أو زمام أويس فناوله عمر، فعرفه بالنعت - عمر كان فطناً وكان عنده فراسة لا يقول لشيء هو كذا إلا كأنه- فقال له عمر: ما اسمك؟ قال: أنا أويس، قال: هل كان لك والدة؟ قال: نعم.
قال: هل بك من البياض؟ قال: نعم.
دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي -الله أبقى موضع درهم في سرة أويس من البرص ليتذكر نعمة الله عليه، أبقاه في موضعٍ خفي لنعمة الله عليه ليس في وجهه عيبه بل في سرته- دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي، فقال له عمر: استغفر لي؟ قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنتَ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فقال عمر: (إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خير التابعين رجلٌ يقال له أويس القرني وله والدةٌ وكان به بياضٌ فدعى ربه فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم في سرته).
قال: فاستغفر له، قال: ثم دخل في أغمار الناس فلا يدرى أين وقع -ذهب أويس واختفى- قال: ثم قدم الكوفة، فكنّا نجتمع -راوي القصة عند الحاكم أسير بن جابر - قال: كنا نجتمع في حلقة فنذكر الله في الكوفة، وكان يجلس معنا أويس ولا يدري أحد أنه أويس، فكان إذا ذكّرهم، وقع حديثه من قلوبنا موقعاً لا يقع حديث غيره، ففقدته يوماً، فقلت لجليسٍ لنا: ما فعل الرجل الذي كان يقعد إلينا؟ لعله اشتكى -أي: مريض- فقال رجلٌ: من هو؟ فقلت: من هو وصفه؟ قال: ذاك أويس القرني، فدللت على منزله فأتيته فقلت: يرحمك الله، لماذا تركتنا؟ فقال: لم يكن لي رداءٌ فهو الذي منعني من إتيانكم، قال: فألقيتُ إليه ردائي، فقذفه إلي -رفض أن يأخذه- قال: فتخاليته ساعة، يحاول في أخذ الرداء، ثم قال أويس: لو أني أخذتُ رداءك هذا فلبسته فرآه علي قومي قالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل في الرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، لو أخذت رداءك سيتهموني بهذا، فلم أزل به حتى أخذه، فقلتُ: انطلق، فقال الرجل -هذا أسير بن جابر -: انطلق اسمع ما يقول الناس عنه، فلبسه -لبس أويس الرداء- فخرجنا فمر بمجلس قومه، فقالوا: انظروا إلى هذا المرائي لم يزل بالرجل حتى خدعه وأخذ رداءه، فأقبلت عليهم فقلت: ألا تستحيون عندما تؤذونه، والله لقد عرضته عليه فأبى أن يقبله، قال: فوفدت وفودٌ من قبائل العرب إلى عمر فقال: فكان فيهم سيد قومه، هذا الوفد الذي جاء إلى عمر، فقال له عمر بن الخطاب: أفيكم أحدٌ من قرن؟ فقال له سيدهم: نعم أنا، فقال له: هل تعرف رجلاً من أهل قرنٍ يقال له أويس، من أمره كذا ومن أمره كذا، فقال: يا أمير المؤمنين! ما تذكروا من شأن ذا، ومن ذاك؟! فقال له عمر: ثكلتك أمك، أدركه أدركه -مرتين أو ثلاثة- ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إن رجلاً يقال له أويس القرني من أمره كذا ومن أمره كذا، فلما قدم الرجل هذا الذي تحدث مع عمر لم يبدأ بأحد، لما قَدِم على بلدة أويس لم يبدأ بأحدٍ قبله، فدخل عليه، فقال: استغفر لي، فقال: ما بدا لك؟! قال: إن عمر قال لي كذا وكذا، قال: ما أنا بمستغفرٍ لك حتى تجعل لي ثلاثة؟ قال: وما هن؟ قال: لا تؤذيني فيما بقي، ولا تخبر أحداً بما قال لك عمر، ونسيت أنا الثالثة -الراوي- قال الذهبي: إسناده على شرط مسلم.
روى الإمام أحمد وهو حديثٌ صحيح، قال: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجلٍ ليس بنبيٍ مثل الحيين ربيعة ومضر) قبيلة ربيعة كلها عن بكرة أبيها وقبيلة مضر كلها عن بكرة أبيها، كم عددهم؟ هناك واحد من أمة محمد ليس بنبي، سيدخل بشفاعته عدد مثل عدد ربيعة ومضر يدخلون الجنة بشفاعة هذا الرجل يوم القيامة، انتهى الحديث بقول عليه الصلاة والسلام: (إنما أقول ما أقول).
قال الحسن البصري: إنه أويس القرني، وقد ورد في رواية أنه أويس، لكنها ضعيفة، هؤلاء الناس إذا فقدوا طلبوا، وإذا طلبوا هربوا.