بعد بشر المريسي أخذ الفتنة أحمد بن أبي دؤاد الذي نشأ وتضلَّع في علم الكلام، وكان فصيحاً معظماً عند المأمون، يصغي إلى كلامه ويأخذ برأيه، فهنا بدأت المرحلة الخطيرة في قضية خلق القرآن، لأن أول ما نشأت هذه الفتنة كانت فكرة مرذولة قال بها قلة، وكانت محارَبة، محدودة، مُسَيْطَر عليها، لكنها عندما وصلت إلى أحمد بن أبي دؤاد الذي كان له حِظْوَة عند الخليفة المأمون صاحب القوة والسلطة، وكان يسمع من ابن أبي دؤاد ولا يسمع فيه، زين له القول بخلق القرآن وحسنها عنده، حتى اعتنقها المأمون وصارت عنده حقاً مبيناً، وكان ذلك في سنة:(٢١٨ هـ) وحمل الناس على ذلك وأكرههم، وبدأت المحنة.
إذاً: بدأت بتسلل الفكرة الخبيثة عن طريق هذا الرجل الذي كان له حِظْوَة عند السلطان، فأقنعه بها، واعتقد أنها حق مبين، وبدأت المحنة بأن كتب المأمون إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي في امتحان العلماء، قال له: اجمع القضاة والمحدثين والفقهاء وامتحنهم بخلق القرآن، واسأل كل واحدٍ في المجلس العام: هل القرآن مخلوق أم لا؟ قال الذهبي رحمه الله: وفيها -في سنة:(٢١٨ هـ) - امتحن المأمون العلماء بخلق القرآن وكتب في ذلك إلى نائبه بـ بغداد، وبالغ في ذلك، وقام في هذه البدعة قيام معتقد بها، فأجاب أكثر العلماء على سبيل الإكراه وتوقفت طائفة، ثم أجابوا وناظروا، فلم يلتفت إلى قولهم، وعظمت المصيبة بذلك، وهدد على ذلك بالقتل.
وكان أول من امتحن في فتنة خلق القرآن هو الإمام عفان بن مسلم صاحب الطرفة التي ذكرناها قبل قليل، وكان يعارض هذه الفكرة ويأبى الرضوخ لها- يقول الذهبي رحمه الله: فلما دعي عفان للمحنة وحضر، وعرض عليه القول بخلق القرآن، امتنع أن يجيب، فقيل له: يُحْبِس عطاءك -أي: يُمْنَع الراتب- وكان يُعْطَى في كل شهر ألف درهم.
فلما رجع إلى داره بعد هذه المواجهة، عذله نساؤه ومن في داره -لاموه، من أين نأكل؟ وأذهبْتَ العطاء؟ وأذهبت المال؟ - وكان يوجد في داره نحواً من أربعين إنساناً -متكفل بأربعين شخصاًَ، الموقف ليس سهلاً- فدق عليه داقٌ الباب، فدخل عليه رجل ومعه كيس فيه ألف درهم، فقال: يا أبا عثمان! ثبتك الله كما ثبتَّ الدين، وهذا لك في كل شهر.
وكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم أيضاً في امتحان سبعة أنفس -الخبث الآن يأتي من ابن أبي دؤاد بانتقاء الأشخاص، واختيار المشاهير من العلماء والفقهاء منهم: - محمد بن سعد، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأحمد بن إبراهيم الدورقي.
فامتحنهم بخلق القرآن، ففي البداية ما أجابوه فأمر بترحيلهم إلى بغداد، ولكنهم في الطريق أجابوا، فردهم من الرقة إلى بغداد، وأجابوه تُقْيَةً -استعملوا التورية كما كان يقول بعضهم: أشهد أنه مخلوق -ويقصد إصبعه- أو يقول: أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف إبراهيم أنها مخلوقة -يقصد أصابعه الخمس- المهم: صارت أفكار العلماء تدور في قضية التورية في هذا الظرف الشديد.
ثم كتب المأمون بعد امتحان هؤلاء السبعة، طلب منه أن يحضر الفقهاء ومشايخ الحديث ويخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة -يقول: انظر يحيى بن معين، ومحمد بن سعد، وأبا خيثمة، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، قد وافقوا على القول بخلق القرآن، كل هذا من الخبيث ابن أبي دؤاد صاحب الأفكار التي يمليها على المأمون لكي يزلزل بها أهل السنة ويفرق بها الجمع؛ لأن الجمع على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق- فكتب المأمون إلى نائبه بأن يحذر الفقهاء ومشايخ الحديث، ويخبرهم بما جاء به هؤلاء السبعة، ففعل ذلك، فأجابه طائفة وامتنع آخرون، وكان يحيى بن معين وغيره يقولون: أجبنا خوفاً من السيف: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}[النحل:١٠٦] المسألة وصلت إلى القتل.