[فرق بين السلف والخلف في حب المال]
وكذلك فإننا إذا نظرنا إلى أنفسنا في مسألة حرصنا على المال، نجد الواحد منا يفرح به فرح الأشرين، وربما حصل في نفسه الفرح في الدنيا والتعلق بها، والواحد منهم كان يأتيه المال فيفرقه يميناً وشمالاً، لما أرسل عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة أربعمائة دينار، قال للغلام: [اذهب بها إلى أبي عبيدة ثم تله ساعة -تشاغل في البيت ساعة- حتى تنظر ما يصنع، قال: فذهب بها الغلام فقال: يقول لك أمير المؤمنين: خذ هذه، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل فأرسل بها إليه، فقال معاذ: وصله الله، يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا، ولبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا! ولم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحى بهما إليها، ورجع الغلام فأخبر عمر فسر بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض] كيف لا يكونوا بعضاً من بعض قد رباهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك خرجت هذه النماذج -أيها الإخوة- متشابهة، زهدهم في الدنيا موجود، خوفهم من الله موجود، ليس في واحد منهم ما يقدح في إخلاصه أو في تقواه رضي الله تعالى عنهم، ولذلك أخبر الله أنه رضي عنهم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:١١٩].
ولو نظرنا -أيها الإخوة- إلى ما أصاب الناس اليوم من جراء الاشتغال بالتجارة والبيع والشراء، دخل عددٌ من الناس في التجارات، دخلوا في أنواع من البيوع والشراء لكن دخولهم ما كان لله، أو أنهم دخلوا في البداية يحدثون أنفسهم أن دخولهم لله فإذا به ينقلب ويصبح انشغالاً بالدنيا فتعسوا فعلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم).
الواحد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما كان يحتاج إلى العمل ويحتاج إلى الشغل، يحتاج عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعمل في مزرعة، هل كان عمله في المزرعة شهوة للدنيا؟
الجواب
كلا.
وإنما كان يعمل للحاجة، لا بد أن يكسب قوته وأن يكسب حاجته، ولكن هل كان عمله في الدنيا يمنعه أو يشغله عن طلب العلم؟ كلا.
ولما عقد البخاري رحمه الله تعالى باباً في كتاب العلم بعنوان: التناوب في العلم، أتى بقصة عمر رضي الله عنه: [كنت أنا وجار لي من الأنصار] وذكر القصة وفيها أن واحداً منها كان يبقى ليعمل والثاني يذهب إلى المسجد، ليسمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فيرجع إلى صاحبه فيخبره بما حصل وبما قيل، وبما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم، طالب العلم لا يغفل عن النظر في أمر معاشه، ليستعين به على طلب العلم وغيره، ولكنه يأخذ بالحزم بالسؤال عما يفوته في يوم غيبته، هذه الفائدة العظيمة التي ذكرها ابن حجر رحمه الله تعالى.
الآن بعض الشباب ربما جاءتهم بعض الخواطر للاشتغال في التجارة، فدخلوا فيها، وفتحوا محلات، وذهبوا يعملون في صفقات، ويذهبون في سفريات، ويستوردون البضائع، ويحضرون المعارض، ويأخذون وكالات ويشتغلون، وهذا أمر جيد إذا ما قيد بالضوابط الشرعية، لكن أيها الإخوة! هؤلاء الذين فتحوا المحلات وجلسوا يبيعون فيها أو راحوا في السفريات والأعمال كيف أصبح حالهم؟ لقد تدهور الكثيرون منهم تدهوراً شنيعاً، لقد اشتغلوا بالدنيا فقست قلوبهم، لقد أعرضوا عن مجالس ذكر كانوا يحضرونها، لقد تركوا كتب علمٍ كانوا يقرءون فيها، ولذلك باع بعضهم كتبه، أو قال: أهبها على استحياء، أو أجعلها وقفاً أو أجعلها في مسجد ونحو ذلك، تخلصوا من الكتب التي كانوا يقرءون فيها، وكان لهم صحبة طيبة يجلسون إليهم يتعلمون منهم ويستفيدون منهم فتركوا ذلك كله.
كنت أحادث شخصاً قبل يومين بالهاتف وقد دخل في تجارة من هذه الأنواع، وكان الرجل من قبل من المبكرين إلى الصلاة في المسجد، الذين يحافظون على الجماعة، ويحضرون حلق العلم والذكر، وفيه شيء من الرقة، ثم ذهب الرجل في شيء من التجارة وسافر، ودخل في وكالات واستثمارات، واشتغل في أنواع من هذه الصفقات، فقلت له: هل لا زلت تحضر درساً في الأسبوع؟ قال: لا وللأسف، ما عدت أحضر شيئاً مطلقاً من الدروس، لا مع أصحابي ولا في المسجد؛ ولذلك فإن هؤلاء الذين ينزلقون في متاهات الاشتغال بالتجارة ولا يقدرون أنفسهم حق قدرها، ولا ينضبطون بالضوابط الشرعية يكون ذلك وبالاً عليهم، ربما يدخل في التجارة يقول: أنا غرضي إفادة الإسلام، وسأجعل جزءاً من أرباحي في سبيل الله، وفعلاً قد يجعل أشياء من الصدقات، لكن لو نظر في النهاية إلى ما آل إليه أمره من قسوة القلب والابتعاد عن طلب العلم وعن الدعوة إلى الله وعن الأخوة الصالحة لوجد الفرق شاسعاً والبون عظيماً بين حاله الآن بعد اشتغاله وقبل ذلك.
وما أحد يقول: إنه لا يمكن الجمع بين التجارة والعبادة والطاعة، لقد كان هناك من أهل العلم من يشتغل في التجارة، ومن أشهرهم ابن المبارك رحمه الله تعالى، قيل له: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع كيف ذا؟ فقال: يا أبا علي! إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، قال: يا بن المبارك! ما أحسن ذا! وكان بعضهم يشتغل بالتجارة يقول: لولا المال لتمندل بنا هؤلاء.
يعني: لتلاعب بنا السلاطين وأذنابهم، وصاروا يذهبون بنا يميناً وشمالاً، واحتجنا إليهم في طلب الأموال، ولذلك كانوا يستقلون بالتجارة، لكن هل كانوا ينغمسون فيها بالكلية؟ أو يقول الواحد كما يقول الواحد في هذا الزمان: أنا أحتاج فترة تأسيس، أنا أحتاج تفرغاً للعمل سنتين أو ثلاثاً ثم بعد ذلك أرجع إلى ما كنت فيه؟ ولكن في الحقيقة ينغمس ويتدرج في الانغماس حتى تذهب السنوات الثلاث والسبع والعشر وهو يتردى من أسفل إلى أسفل، وهكذا حال كثير منهم.