للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فوائد من حديث السبعين ألفاً

هذا بالنسبة لشرح هذا الحديث العظيم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفنا منه أهمية التوكل على الله، وأن ترك الاكتواء أفضل، وترك التطير واجب، وأن ترك الاسترقاء أفضل، وعرفنا فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على بقية الأمم كما وكيفاً، فأما الكم فإن النبي عليه الصلاة والسلام رأى أهل الجنة من أتباعه يملئون كل الآفاق آفاق السماء أكثر من الذين مع موسى، وأما الكيفية فهم متوكلون على الله؛ لا يسترقون ولا يتطيرون، هذه فئة خاصة، وموسى ومن معه يلوننا في الأفضلية، أصحاب موسى عليه السلام الصالحون والعباد والشهداء والعلماء من بني إسرائيل.

والحديث فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حين رأى بعض الأنبياء ما معه إلا الرجل والرجلان، وبعضهم ليس معه أحد، فيعلم عند ذلك فضل الله عليه وشرفه عند الله ومكانته؛ بأن جعل أتباعه أكثر الأمم، وأكثر من أتباع أي نبي آخر، وعرفنا أن كل أمة تحشر مع نبيها.

ويؤخذ منه فائدة دعوية مهمة جداً وهي: أن عدد الأتباع ليس دليلاً على نجاح الداعية، فربما يقوم الإنسان بالدعوة ويجتهد ويدعو ويبذل ولا يستجيب له أحد، فلا يكون عدم اتباع الناس له دليلاً على أنه مخطئ أو ضال أو مذنب، بل قد يكون ابتلاء من الله، فهناك أكثر من نبي ومع ذلك ما تبعه أحد، وما استجاب له أحد، يعرف الدعوة ويفقهها، ويعرف أساليبها والطرق الناجحة فيها، ويبذل أسباب النجاح؛ ومع ذلك ما كتب له أن يتبعه أحد إذاً: الداعية إلى الله إذا كان صادقاً مع الله، متخذاً الأسباب، فقيهاً بأمور الدعوة، يتخذ الأساليب الناجحة، وما وفق في أشخاص يهتدون على يديه، فلا تذهب نفسه حسرات، ولا يحزن ولا ييئس، فهؤلاء أنبياء وما مشى معهم أحد، فما بالك بمن هو أقل منهم؟! وفائدة أخرى مهمة جداً: وهي أن كثرة الأشخاص لا تدل على أن هذا حق، ليست الكثرة معياراً للحق أبداً، فلا يغتر الشخص بالكثرة {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:١١٦]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣] ومنه نعلم فساد المذهب الديمقراطي الذي يقوم على رأي الأغلبية؛ لأنهم يأخذون آراء السفهاء والشذاذ والهمل في الشوارع، يأخذون آراءهم بالعدد استفتاء، ثم يقولون: الأغلبية كذا، مع أن الأكثرية هؤلاء همل، ولذلك انتخاب الخليفة عند المسلمين يكون من أهل الحل والعقد، وليس من عموم الرعاع من الناس.

كذلك هؤلاء الغربيون يتباهون بأن عندهم الحرية ومبدأ الأكثرية، فيصوتون على أي شيء، وكثير من الناس سفهاء لا عقل لهم، أتباع الشهوات والأهواء، لو قيل لهم: أتريدون أن يكون الزنا مسموحاً به؟ لربما قال أكثر الناس: نعم، ولو قيل: أتريدون السماح بالخمر؟ لربما قال أكثر الناس: نعم، إذاً: مبدأ الأكثرية الذي تعتمد عليه الأنظمة الجاهلية هو جاهلي، وليس من الدين، لكن بالنسبة للعلماء فإنه إذا أراد الإنسان أن يطمئن إلى قول فعليه بالجمهور، وليس بالضرورة أيضاً أن يكون الحق مع جمهور العلماء، فقد يكون الحق مع غير الجمهور، حتى في قضية المسلمين المؤمنين العلماء ربما لا يكون الحق مع الجمهور، بل يكون مع من هو أقل؛ لأن الدليل معهم، فإذاً: لا يصح أن يغتر الإنسان بالكثرة حتى ولو كانوا على الحق، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:٢٥]، مع أن الطرف المقابل كفار، فالإنسان لا يغتر بالكثرة ولا يغتر مع الكثرة، وإذا رأيت كثرة الهالكين فلا تغتر وتقول: هؤلاء على الحق لأنهم أكثرية، وإذا رأيت كثرة أهل الحق فلا تعجب بهم، فإنه يحصل الإعجاب فيكون سبب الهزيمة والفشل، فهذه قضية الأكثرية والأقلية قضية مهمة جداً ينبغي أن تعرض على الشريعة.

وفي الحديث علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته، وبرهان على نبوته عليه الصلاة والسلام، وأنه يوحى إليه، وذلك أنه أخبر أن عكاشة منهم، وعكاشة ما ارتد ولا غير ولا بدل، واستمر ومات شهيداً رضي الله عنه، فبقي محبوساً من الكفر حتى مات على الإسلام، فإذا أراد الإنسان أن يخبر عن أمثلة من المبشرين بالجنة من غير العشرة فإنه يقول: عبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن رضي الله عنهما.

كذلك في الحديث استعمال المعاريض، في قوله: (سبقك بها عكاشة) فليس المانع الحقيقي أن عكاشة سبقه، لكن المانع أنه عليه الصلاة والسلام خاف أن ينفتح الباب ويسأل هذه المرتبة شخصٌ ليس من أهلها فقال: (سبقك بها عكاشة) وهذا دليل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث رواه البخاري وغيره، وهو مشروح في فتح الباري، في كتاب التوحيد.

والله تعالى أعلم.