[ابن هبيرة وطلبه للعلم وبعض مؤلفاته]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
وبعد: ففي سلسلة (أضواء على سير العلماء) نتحدث في هذه الليلة -إن شاء الله تعالى- عن سيرة العالم الوزير الكامل الإمام العادل عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن الحسن بن جهم الشيباني الدوسي العراقي الحنبلي، صاحب المصنفات رحمه الله تعالى، وهذا الإمام عربيٌ شيبانيٌ.
كان مولده في سنة بـ قرية بني أوقر من الدور إحد بلدان العراق، ولذلك يقال في نسبه: الدوري.
ودخل بغداد في صباه، وطلب العلم، وقرأ القرآن بالراوية على جماعة.
وسمع الحديث من جماعة، منهم: القاضي أبو الحسين بن الفراء، وابن الزاغوني، وعبد الوهاب الأنماطي، وغيرهم.
وقرأ القرآن بالقراءات السبع.
وشارك في علوم الإسلام، ومهر في اللغة، وكان يعرف مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والعربية، والعروض.
يقول الذهبي عنه كما في السير: "كان سلفياً أثرياً".
وهذه صفة مهمة للعلماء.
سلفياً: يتبع السلف في المعتقد.
أثرياً: يعتمد الأثر والحديث والدليل في أقواله الفكرية وغيرها.
وقرأ الفقه على أبي بكر الدينوري.
وقرأ الأدب على أبي منصور الجواليقي.
وصَحِبَ أبا عبد الله محمد بن يحيى الزبيدي الواعظ الزاهد من حداثته، وأخذ عنه التألُّه والعبادة، وانتفع بصحبته حتى إن الزبيدي كان يركب جملاً ويعتم بإزار ويلويها تحت حنكه وعليه جبة وهو مخضوب بالحناء، فيطوف بأسواق بغداد ويعظ الناس، وزمام جمله بيد أبي المظفر ابن هبيرة، فكان ابن هبيرة رحمه الله يمسك بجمل هذا الواعظ يمشي به وهو يطوف على الناس يعظهم، وكلما وصل الزبيدي موضعاً، أشار أبو المظفر بمسبحته ونادى برفيع صوته: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير) وهذا الذكر يقال عند دخول السوق.
وكان رحمه الله تعالى متشدداً في اتباع السنة وسيرة السلف الصالح، ولما طلب العلم حصل أنه رحمه الله أمضه الفقر، وأعيته الحاجة، واحتاج إلى موردٍ للكسب، فتعرض للكتابة فصار كاتباً -حصل على وظيفة كاتب- وتقدم وترقى في الكتابة لدى الخليفة، وصار على مشارف الخزانة، ثم ولي ديوان الزمام، أي: ديوان يُعْنَى بالشئون المالية المدنية والعسكرية، وفيه تُحفظ السجلات، وهو من التراتيب الإدارية في الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، فلوحظ عليه الأمانة وجودة العمل وإتقانه، فكان قوياً أميناًَ، فتولى ديوان الزمام للخليفة المقتفي لأمر الله، وفي سنة: (٥٤٤ هـ) عينه وزيراً، واستمر في الوزارة لابنه المستنجد بالله بعد الخليفة المقتفي.
وكان -رحمه الله تعالى- ديِّناً، خيِّراً، متعبداً، عاقلاً، وقوراً، متواضعاً، باراً بالعلماء، مكباً -مع أعباء الوزارة- على العلم وتدوينه، كبير الشأن، وكان حسنة الزمان في ذلك الوقت.