[خوف العلماء من عاقبة عدم العمل بالعلم]
وعن أبي الدرداء قال: [إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول: قد علمته، فما عملت فيما علمته].
وقال: [إن أخوف ما أخاف على نفسي يا عويمر -هذا اسم أبي الدرداء، هل علمتَ؟ فأقول: نعم، فيقال لي: فماذا عملتَ فيما علمتَ؟].
وقال الحسن البصري رحمه الله: [ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال] وبعض الناس يروي هذا الأثر حديثاً مرفوعاً، لكنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الحسن البصري رحمه الله.
من قال حسناً وعمل غير صالحٍ؛ رده الله على قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل، وذلك لأن الله يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠] فالعلم الصالح يرفع صاحبه، والعمل الصالح يُرفع إلى الله عز وجل.
وقالوا في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:١٣] ما هو طائره؟ عمله.
وقال حفص بن حميد: [دخلتُ على داود الطائي أسأله عن مسألة وكان كريماً؟ فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب أليس يجمّع آلته؟ -يستعد للمعركة والقتال ويجمّع السلاح- أليس يجمّع آلته، فإذا أفنى عمره في جمع الآلة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل، فإذا أفنى عمره في جمعه فمتى يعمل؟!] هكذا يكون حال الذي يجمع ولا يعمل.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: [سمعني عبد الله بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ -أي: الذين فاتوني، مات الشيخ فلم يلحق به- فقال: يا أبا عبيد! مهما يفوتك من العلماء فلا يفوتنك العمل] إذا مات الشيخ فنقول: رحمه الله، لكن علمه باقٍ فلا تتحسر على فواته، واعمل بما تركه من علم تفلح، وهذا هو الخير العظيم والتعويض الكبير.
وقال أبو الدرداء رحمه الله ورضي عنه وأرضاه: [ويلٌ للذي لا يعلم، وويلٌ للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات] لماذا هذا الكلام؟ لأن بعض الناس يقول: إذا كان العلم حجة فلماذا نتعلم؟ نبقى في جهلنا أحسن! فنقول: وهل إذا بقيت في جهلك ستكون معذوراً عند الله؟ لأن بعضهم سمع عن مسئولية العلم، وماذا على المتعلم من الوزر إذا لم يعمل، قال: أمكث بلا تعليم أحسن، فنقول له: وماذا ستكون في جهلك؟ غير معذورٍ به، تؤاخذ عند الله، وتقع في الحرام، وتقع في البدع، فأي شيءٍ هذا؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل العالم الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)، وفي رواية: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) فالذي يعلم الناس خير إضاءة، لكن إذا كان لا يعمل فسيكون محرقاً لنفسه، أما الذي هو منطفئٌ خامد لا يضيء للآخرين ولا يضيء لنفسه، فهذا من أشر الناس.
وقال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه، فيقال: أليست كنت تأمر بالمعروف وتنهى المنكر، قال: كنتُ آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) وهذا حديثٌ صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.
قال منصور بن زاذان: "نبأت أن بعض من يُلقى في النار ليتأذى أهل النار بريحه، فيقال له: ويلك! ما كنتَ تعمل؟ لا يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك ونتن ريحك؟ فيقول: إني كنتُ عالماً فلم أنتفع بعلمي".
وقال يحيى بن معاذ الرازي: "مسكينٌ من كان علمه حجيجه، ولسانه خصيمه".
وقيل: "كل من لم ينظر بالعلم فيما لله عليه، فالعلم حجةٌ عليه ووبال".
العلم يستفاد منه أن تعلم حق الله عليك فتقوم به:
إذا العلم لم تعمل به كان حجة عليك ولم تُعذر بما أنت حامله.
فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما يُصدق قول المرء ما هو فاعله
وبعض السلف تمنَّى أنه لم يحمل من العلم شيئاً؛ وذلك لعظم مسئولية العلم، وما هو مطالب به من العمل، لكنه لا يمكن أن يكون متمنياً للجهل، وأن يبقى جاهلاً، فينبغي التوازن في معاني عبارات بعض العلماء.
كقول الشعبي رحمه الله: [ليتني لم أكن تعلمتُ من هذا العلم شيئاً] قال الكلام معاتبة لنفسه، وشعوره بالذنب والتقصير، وهذا من تواضعه رحمه الله.
قال سفيان الثوري وهو من كبار العلماء: [ليتني لم أكتب العلم، وليتني أنجو من علمي كفافاً لا علي ولا لي].
وقال ابن عيينة: "العلم إن لم ينفعك ضرك" ليس في علم ما لا ينفع ولا يضر؛ لأن العلم حجة لك أو عليك، فإما أن تنتفع به وإما أن تتضرر به.
وعن مالك بن دينار قال: إني وجدتُ في بعض الحكمة: لا خير لك أن تعلم ما لم تعلم ولم تعمل بما قد علمت، فإن مثل ذلك مثل رجلٍ احتطب حطباً -الآن يريد أن يضرب مثلاً لمن عنده علم فلم يعمل به ويريد أن يتعلم زيادة، فقال: لا خير لك أن تعلم ما لم تعلم، ولم تعمل بما قد علمت فتضيف علوماً إضافية، ولم تعمل بعد بالعلم الأول، فإن مثل ذلك مثل رجل احتطبَ حطباً -فحزم حزمةً وذهب يحملها فعجز عنها، فضمّ إليها أخرى".
وقال محمد بن علي الصوري -نسبة إلى صور وهي إحدى البلدان التي دخلها الخطيب رحمه الله-:
كم إلى كم أغدو إلى طلب العلم مجداً في جمع ذاك حفياً
طالباً منه كل نوعٍ وفنٍ وغريبٍ ولست أعمل شيئاً
وإذا كان طالب العلم لا يعمل بالعلم كان عبداً شقياً
إنما تنفع العلوم لمن كان بها عاملاً وكان تقياً