ثم قال في الحديث:(ومضى الناس) قتلت الدابة ومضى الناس، في رواية الترمذي التي أشرنا إليها آنفاً:(فقال الناس: من قتلها؟ قالوا: الغلام، ففزع الناس فقالوا: قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد) يعني: الغلام اشتهر عند الناس الذين حضروا الحادثة (فأتى الراهب فأخبره) فالغلام الآن لما حصلت القصة أتى الراهب فأخبره بالخبر، وهذا الإخبار للراهب نتيجة طبيعية لكل من رأى حدثاً مثيراً أن يذهب لمن تلقى منه الدين ليطلعه على ما حصل، أو يطلب منه تفسيراً على ضوء الشريعة على ما حصل، لو أن الناس اليوم رأوا حادثاً مثيراً فكل واحد يرى الحادث يذهب لمن؟ يذهب لمن تلقى منه الدين أو للعالم أو لمن يثق به من أهل العلم والخير والدعوة إلى الله عز وجل فيطلعه على ما حدث، أو يطلب منه تفسيراً إن كان الأمر فيه غموض أو رأياً فيما يحدث، فأجابه الراهب لما أخبره الخبر (فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني) هذه الكلمة -أيها الإخوة- كلمة عظيمة جداً يحتاج أن نقف عندها وقفة مهمة نتأمل في هذه الكلمة التي قالها الراهب، ماذا قال الراهب؟ قال:(أنت اليوم أفضل مني) فهذا شيخ الغلام، وهذا مصدر العلم، وهذا الذي يوجه وهو الكبير، كيف يقول لغلام صغير: أنت اليوم أفضل مني؟ هذه الكلمة -أيها الإخوة- كلمة لها وزن، هذا الموقف من الراهب موقف الاعتراف للغلام أنه قد صار اليوم أفضل منه يدل على تجردٍ كامل من هذا الراهب من الحسد، لم يقل: صارت له خارقة وصار أحسن مني أحسده وأكتم مواهبه، لكن قال: أنت اليوم أفضل مني، إن النفوس -أيها الإخوة- فيها مداخل شيطانية كثيرة، منها: حب التميز، وحب ألا يوجد أحد يفوقك، فليس الإشكال أن تكون متفوقاً، لكن الإشكال إذا تفوق عليك أحد أن تعاديه وتحسده، وتحاول أن تمنع عنه الخير الذي جاءه، هذا الإشكال، فالآن الراهب هل قال: أترك لقد صار هذا الغلام أحسن مني؟ لم يقل هذا، وقال له بكل صراحة وبكل وضوح:(أي بني أنت اليوم أفضل مني) فالقضية ليست قضية كبر وصغر، وإنما القضية فهم الدعوة، وتحقيق مصلحة الدعوة، تحقيق منهج الله في الأرض، هذه المسألة، فلو أن إنساناً اليوم فاق شيخه في طلب العلم، وهذا قد يحصل فما هو الموقف السليم للشيخ؟ هنا يقول له: أعطيتك إجازة وليس هناك داعٍ إلى أن تتعلم، يقول: هذا غداً يصبح أحسن مني، والناس يتحولون مني وينتقلون لهذا الجديد الذي صار أحسن مني، فتأخذه العزة بالإثم ويتغلب الحسد والنفسية السيئة، ولكن الراهب تجرد من هذا كله، تجرد بلا حرج مطلقاً (أنت اليوم أفضل مني) وفتح الطريق أمام المواهب الناشئة التي وفقها الله عز وجل، وليس العمر هو الأساس، بل هو الإيمان والكفاءة، والناس طاقات يتفاوتون، هذه المسألة اليوم تلعب أدواراً سيئة في واقعنا، فتجد مثلاً رئيساً تحته موظف، وهذا الموظف مثلاً نشيط وفاهم وتعلم بسرعة، ويأخذ شهادات ودورات مثلاً، ماذا يفعل الرئيس؟ يخاف، يقول: هذا بعد أيام سيأخذ محلي، فيدب الحسد والبغضاء، ويبدأ يحجب عن هذا الموظف كل المعلومات التي تفيده، بل قد يشغله بأشياء تافهة جداً، افعل كذا وابحث هذا؛ أشياء لا تصلح للعمل ولا تنفع العمل بشيء، فيبعد هذا الموظف النشيط عن حيز المسئولية، حتى لا يأخذ مكانه، وقس على ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تحدث في حياتنا اليومية، وواقع الحياة اليوم بين الناس من جراء الحسد عندما يتفوق إنسان على إنسان، فلله در هذا الراهب ما أطيب قلبه! وما أشد تجرده لله! عندما اعترف لهذا الغلام، وقال له:(أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى) ما أرى من الصدق والاعتقاد الحسن، والكرامة التي أجراها الله على يديك، الآن لما قال له:(أنت اليوم أفضل مني) هذه الكلمات ماذا تنتج في نفس الغلام؟ قد تنتج نوعاً من الزهو، ليس الغرور، قد تنتج أشياء من هذا، فلكي يحدث هذا الراهب المربي التوازن في نفس الغلام، ماذا قال له بعدها مباشرة؟ حتى لا يصيبه الغرور، هو الآن حقيقة أفضل من الراهب، هذا قدر الله عز وجل وهذه حكمة الله، لكن ماذا قال الراهب بعدها لكي يحدث التوازن ويزيل السلبيات الناشئة عن الإخبار بالحقيقة الأولى التي لا بد من الإخبار بها؟ لكن فيها سلبية، فكيف تزال؟ قال له:(وإنك ستبتلى) فكلمة إنك ستبتلى ماذا تحدث؟ لأن هذا التشريف الذي حصل الآن ليس بلا مقابل، وإنما سيعقبه تكليف وابتلاء، فهذه الأفضلية لها ثمن، وإنك ستبتلى، فعندما يشعر الغلام بأنه سيبتلى، يذهب عنه الغرور والزهو وغير ذلك.