[موقف المظلوم من الظالم]
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والحمد لله ولي المتقين، وناصر المظلومين والمستضعفين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أيها المسلمون! لقد تحدثنا في الخطبة الماضية عن الظلم وحكمه وشدته، وأثره وعقوبته في الدنيا والآخرة، وتتمة الموضوع اليوم عن موقفنا من الظلم، ماذا يكون، وكيف ينبغي أن يكون؛ سواء بالنسبة للمظلوم أو بالنسبة للظالم أو بالنسبة لبقية الناس.
فاعلموا -رحمكم الله تعالى- أن الله عز وجل قال في كتابه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:٤٠ - ٤٣].
لقد تضمنت هذه الآيات أمرين: الأمر الأول: الانتصار من الظالم، والثاني: عفو المظلوم.
وقد عنون البخاري رحمه الله تعالى بكليهما في صحيحه، فقال: باب الانتصار من الظالم، لقوله جل ذكره: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:١٤٨] وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:٣٩] قال إبراهيم رحمه الله: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا.
أي: أن الله مدح المؤمنين بأن فيهم قوة للانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين؛ بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، ومع هذا إذا قدروا عفوا، كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم؛ فعفا عنهم مع قدرته على البطش بهم ومؤاخذتهم ومقابلتهم بمثل صنيعهم.
وكذلك عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به لما اخترط سيفه عليه والنبي صلى الله عليه وسلم نائم، فاستيقظ عليه الصلاة والسلام، فوجد السيف مصلتاً فوق رأسه، فانتهر الرجل، فخاف وهاب وارتعش، فوقع السيف من يده، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم في يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه.
وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عن زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمد بن مسلمة رضي الله عنه، والتي سمت الشاة يوم خيبر، وأكثرت السم في الذراع، فأخبره الذراع عليه الصلاة والسلام أنه مسموم، فدعاها فاعترفت، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على ذلك؟ قالت: أردت إن كنت نبياً لم يضرك، وإن لم تكن نبياً استرحنا منك، فأطلقها صلى الله عليه وسلم وعفا عنها).
ولكن لما مات بشر بن البراء صاحبه من جراء أكله السم، قتلها به صلى الله عليه وسلم قصاصاً، والآيات والأحاديث في عفو المظلوم عن الظالم كثيرةٌ، ولكنه ندبٌ لمن قدر على رد المظلمة وعن الانتقام أن يعفو، العفو مع القدرة قوةٌ في حسن وحسنات يأخذها الذي عفا من الله يوم القيامة، والله يعطي بلا حساب.
وإذا أصر على الانتقام فلا بأس بذلك وهو مباح، ومن عدل الله في البشرية أن أباح لهم القصاص، وأباح لهم أن ينتقموا بمقدار ما ظلموا، فبعد أن ذكر الله تعالى المرتبة الأولى التي هي العفو مع القدرة ذكر المرتبة الثانية وهي جواز الانتقام، فقال عز وجل: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:٤١] أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم إذا أرادوا الانتقام، ولا حرج عليهم في ذلك، سواء كان الظلم كثيراً أو قليلاً، ولو كان ظلم الضرة لضرتها جاز للزوج أن يمكن المظلومة من أخذ حقها ولو كان كلاماً، كما جاء في سنن النسائي وابن ماجة من حديث خالد بن سلمة الفأفاء عن عبد الله البهي عن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ما علمت حتى دخلت عليّ -أي: فلانة من ضراتها- بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكرٍ درعها، ثم أقبلت عليّ فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دونك فانتصري) فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها ما ترد عليّ شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه.