كذلك يا إخواني موقف العلماء بعضهم من بعض يدل على صفات عظيمة يجب أن تكون في العلماء، فثناء بعضهم على بعض كان صفة لازمة للمخلصين منهم، كانوا يثنون على بعضهم في المجالس وفي حلقات العلم، وكان اللاحق منهم يترحم على السابق إذا ذكر فائدة أخذها عنه، وكانوا يستفيدون من كتب بعضهم، وكان يحضر بعضهم مجالس بعض، ما كانوا متكبرين ولا متعالين، ومع أن بعضهم قد يكون حدث بينه وبين بعض العلماء أشياء ولكنهم كانوا رجاعين إلى الحق.
هذا شيخ الهند في عصره وعالمها الإمام صديق حسن خان، كان بينه وبين عبد الحي اللكنوي، منافسات شديدة، فلما توفي اللكنوي تأسف صديق خان بموته تأسفاً شديداً، وما أكل الطعام في تلك الليلة، وقال حفيده: إنه أمر بإغلاق مدينة بهوبال التي هو ملكها؛ لأنه كان ملكاً عالماً ثلاثة أيام حزناً على الشيخ أبي الحسنات اللكنوي، وقال: اليوم مات ذوق العلم.
وقال: ما كان بيننا من منافسات إنما كان للوقوف على المزيد من العمل والتحقيق.
وهذا شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لا يكاد يجد فرصة يذكر فيها أحد علماء العصر إلا ويثني عليه، تواضعاً منه وما حباه الله به من هذه الصفة العظيمة، فتراه مثلاً يقول عن محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، يقول: لا أعلم تحت أديم السماء رجلاً أعلم منه بالحديث، ولا أشد اشتغالاً ولا تفرغاً ولا عناية به من أحد من أهل العلم بالحديث، وهذا كلام سمعته منه بنفسي، وقد نفى أنه قال: ليس تحت أديم السماء أعلم من الألباني بالحديث، قال: أنا لا أقول بهذا، أنا أقول: لا أعلم شخصياً، يقول الشيخ: لأن الإحاطة لله جل وعلا.
ويثني على الشيخ الشنقيطي رحمه الله، ويثني على الشيخ ابن عثيمين في المجالس، وعلى الشيخ الفوزان وبقية العلماء.
التواضع صفة لازمة، قال الله جل وعلا {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:٧٦] ولذلك كانوا يكثرون من قولة: لا أدري، إذا سئلوا عن مسألة لا يعلمونها، يقول أحدهم: لا أدري، وكان لا يستحون من ذكر هذه الكلمة، بل إن ذكرها أيها الإخوة دليل اطمئنان وارتياح للعالم الذي يقولها، لأنك تثق من كلامه عندما يقول في المسألة: لا أدري، لا يزعم الإحاطة والعلم بالأمور ويفتي بغير علم.
وقد سألته مرة حفظه الله: هل الغيرة من الحسد أم لا؟ فلبث ملياً متفكراً، ثم قال: لا أدري، قد يقول قائل: هذه مسألة لا علاقة لها بالفقه وليس فيها أحكام، ولكن فيها درس لكل عالم ولكل طالب علم بالتورع عن القول بما لا يدري، وعن الوقوف ولا ينزل من شأنه أن يقول: لا أدري، وهذا الإمام مالك سئل عن ثمانية وأربعين مسألة فأجاب عن ست وثلاثين منها: لا أدري، فقال له السائل: ماذا أقول للناس إذا رجعت إليهم قال: قل لهم: يقول مالك: لا أدري.