قال العلماء: من أسباب الكناية في القرآن: أن يذكر بالكناية ما يفحش ذكره في السمع، فيكني عنه بما لا ينبو عنه الطبع، وقد قال الله تعالى:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}[الفرقان:٧٢] ومما قيل في تفسيرها: أي: كنوا عن لفظه ولم يوردوه على صيغته، وقد قال تعالى:{وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً}[البقرة:٢٣٥] فكنى عن الجماع بالسر، وقال:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}[البقرة:١٨٧] فكنى عن الجماع بالمباشرة لما فيها من التقاء البشرتين، وقال:{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}[النساء:٤٣] بدلاً من الجماع، إذ لا يخلو الجماع من ملامسة، وكنى كذلك بقوله:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}[البقرة:١٨٧] واللباس من الملابسة وهي الاختلاط الحاصل عند الجماع.
وكذلك قال في آية أخرى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}[البقرة:٢٢٣] فكنى عنها بالحرث، وقال تعالى في قصة امرأة العزيز:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ}[يوسف:٢٣] فطلبت منه ما تطلب المرأة من الرجل، فعبر عن ذلك بالمراودة.
وقال كذلك في الجماع:{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ}[الأعراف:١٨٩].
وكنى عما يخرج من الإنسان من الفضلة في قصة مريم وابنها {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}[المائدة:٧٥] قال بعض أهل العلم بالتفسير: "أراد أيضاً مع الأكل البول والغائط، فأخبر بالمسبب إذ لابد للإنسان من البول والغائط، لكن لما كان مما يستقبح كنى عنه بذلك، وأراد أن يقول: إن مريم وابنها يأكلان الطعام ويخرجان الفضلات، ولا يمكن لأحدهما أن يكون إلهاً، فإن الله تعالى منزه عن ذلك".
وقال عز وجل:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}[المائدة:٦] والمقصود بالغائط قسيم البول، ما يخرج من الإنسان من الفضلة، ولكن قال: الغائط، وهو المكان المنخفض من الأرض، لأن العرب كانوا إذا أرادوا قضاء حاجاتهم أبعدوا عن العيون إلى مكان منخفض من الأرض، حتى إذا نزل أحدهم فيه ليقضي حاجته لا يرى، فكنى عنه بالغائط، فانظر إلى لطيف اللفظ، وكيف يعلمنا الله الأدب في كتابه.
وقال:{وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ}[الممتحنة:١٢] ومعلوم ماذا يوجد بين أرجلهن، فالكناية عن الزنا، وكنى عن الاست بالدبر، فقال:{يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}[الأنفال:٥٠].