للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السلف ورحلتهم في طلب العلم]

الرحلة في طلب العلم سنة متبعة، ومِن أول مَن سافر لطلب العلم: الصحابة رضوان الله عليهم، وقد رحلوا من الأمصار المختلفة، والقبائل المختلفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

والصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رحمه الله ورضي عنه رحل من المدينة إلى عقبة بن عامر بـ مصر يسأله عن حديث سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري -أمير مصر - عانقه، وبعث معه من يدله على منزل عقبة، فلما لقيه، قال له: [حدثنا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المسلم، لم يبق أحدٌ سمعه غيري وغيرك] فلما حدثه ركب أبو أيوب راحلته راجعاً إلى المدينة، وما حل رحله، وما أدركته جائزة مسلمة الأمير إلا بعريش مصر.

وقد خشي أبو أيوب أنه قد نسي شيئاً من الحديث، فرحل شهراً كاملاً من الحجاز إلى مصر يقطع المفاوز لأجل هذا الحديث.

وكذلك فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنه رحل إلى عبد الله بن أنيس في الشام شهراً كاملاً ليحمل عنه حديثاً واحداً لم يكن جابر قد سمعه من النبي عليه الصلاة والسلام، وهو حديث: (يحشر الناس يوم القيامة عراةً غرلاً بهماً).

هذه همة الصحابة في حديث واحد، يسافر لأجل حديث واحد.

اتسعت الرحلة بعد ذلك في جيل التابعين؛ نظراً لأن الصحابة قد تفرقوا في الأمصار واستقروا بها، فذهب التابعون وراءهم يسافرون لطلب العلم.

قال سعيد بن المسيب رأس التابعين رحمه الله: [إن كنت لأسير في طلب الحديث الواحد مسيرة الليالي والأيام].

ورحل الحسن البصري من البصرة إلى الكوفة لمقابلة كعب بن عجرة رضي الله عنه ليسأله عن مسألة.

وكذلك رحل غيرهم.

وقال الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره، رأيت أن سفره لا يضيع.

ورحل شعبة بن الحجاج رحمه الله للبحث في أصل حديث واحد من الكوفة إلى مكة، ومن مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى البصرة؛ لأجل حديث واحد؛ ليعرف أصل هذا الحديث مِن أين خرج، ومَن الشيخ الذي حدث به حتى يصل إلى أعلى شيخ يمكن الوصول إليه؛ ليتأكد من صحة حديث واحد.

في القرن الثاني والثالث الهجري اتسعت دائرة الرحلة في طلب الحديث، وأدرك العلماء والمحدثون أهمية الرحلة وأثرها البعيد في حفظ السنة.

عندما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن طالب العلم: هل يلزم رجلاً عنده علم فيكتب عنه، أو يرحل إلى المواضع التي فيها العلم، فيسمع منهم؟ فقال: يرحل، يكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة، يشام الناس ويسمع حدثيهم.

أي: يتطلع ويترقب ويختبر الناس ويسمع منهم.

وقال يحيى بن معين: أربعة لا تؤنِس منهم رشداً: ١ - حارس الدرب.

٢ - مُنادي القاضي.

٣ - ابن المحدث.

٤ - رجل يكتب في بلده، ولا يرحل في طلب الحديث.

كأنه يقول: هؤلاء لا ترجو منهم شيئاً.

ورجل يكتب في بلده، ولا يرحل في طلب الحديث؛ لأنه إذا لَمْ يرحل، فإنه لا يُحصِّل إلا ما في بلده، فتكون دائرة معلوماته ضيقة.

وعلي بن المديني رحمه الله سار على هذا النهج مقتفياً أثر الصحابة والتابعين، مصابراً ومتعلماً منهم كما قال الشعبي لما سئل: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبرٍ كصبر الجماد، وبكورٍ كبور الغراب.

فجمع الشعبي رحمه الله العلم بهذه الصفات التي سار بها في البلدان.

فاليوم بعد جمع الحديث وكتابته وتدوينه في الكتب، صارت الرحلة في طلب الحديث لم تعد لها تلك الأهمية السابقة؛ لأن الأحاديث قد دونت وطبعت ووجدت في الكتب، فالآن إذا أردت الحديث، ما عليك إلا أن تفتح الكتاب، في السابق لم تصنف الكتب بعد ولم تكتمل، فكانوا يرحلون إلى الرواة والأشياخ، في الأمصار والمدن المختلفة يجمعون الحديث، ولما جمعوه وصنفت الكتب، لم تعد هناك فائدة تكاد تكون مهمة في مسألة الرحلة والسفر في طلب الحديث، لكن بقيت الرحلة والسفر في طلب العلم عموماً، فإنه يوجد في بلد ما لا يوجد في بلد أخرى من أهل العلم، فربما ترحل إلى المدينة، وترى من أهل العلم ممن فيها مما لا يوجد في مكة، وفي مكة تجد ما لا يوجد مثلاً: في القصيم، وفي القصيم تجد ما لا يوجد في الرياض، وفي الرياض تجد كذا.

وإذا رحل إلى الهند والشام ومصر واليمن ربما يتعرف على علماء لا يوجد لهم مثيل في بقية البلدان.

فالآن الرحلة في طلب الحديث تكاد تكون قد انقطعت وانتهت بتصنيف الكتب وجمعها.

بقيت الرحلة في طلب العلم عموماً والمسائل والأخذ عن الأشياخ والدراسة، وقد يوجد شيخ متقن للفرائض في بلد، وشيخ متقن للغة في بلد، وشيخ متقن للفقه في بلد وهكذا.

ثم إن لقاء أهل العلم فيه فوائد: في الأدب وتعلمه في الزهد والورع، وربما يتعرف الإنسان على أصناف من المشايخ، أو الذين يلقاهم في رحلات مختلفة، يتعرف عليهم بحيث أنه يكمل شخصيته مِمَّا يعاشر من هذا وهذا وهذا.

رحل علي بن المديني رحمه الله في طلب العلم إلى مدن العراق المختلفة التي كانت معروفة بلواء العلماء في ذلك الوقت، فلا شك أنه في البداية أخذ العلم عن علماء بلده كالطريقة المعتادة.

أولاً: يأخذ العلم عن علماء بلده، ثم يرحل وإذا انتهى من علماء البلد رحل.