[ما يجوز وما لا يجوز من الغضب]
هل المطلوب من الإنسان المسلم ألا يغضب أبداً ولا في أي حالة من الحالات؟ طرحنا هذا السؤال في بداية عرض هذا الموضوع، وإليكم هذا
الجواب
الإمام البخاري رحمه الله تعالى عقد بابين متتاليين في كتاب الأدب من صحيحه قال في الباب الأول: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، وقال في الباب الذي يليه: باب الحذر من الغضب، فتبين إذاً أن هناك غضباً محموداً شرعاً وهو ما إذا انتهكت محارم الله، فهو لأجل دين الله عز وجل، الغضب إذا أريد على أمر من الدين، كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب احمرت وجنتاه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يغضب، توضح عائشة رضي الله عنها هذا الغضب وأين يكون موقعه، فتقول في حديث مسلم: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها) من أجل الله يغضب، من أجل النفس لا، فتبين الآن متى يكون الغضب مذموماً ومتى يكون محموداً؟ يكون مذموماً إذا كان انتصاراً لأجل النفس، ويكون محموداً: إذا كان انتصاراً لله عز وجل، وهذا الغضب من أجل الله غضب محمود، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:٣٠] ومن تعظيم حرمات الله أنك لا ترضى بالمنكر، وتغضب لو انتهكت حرمات الله أمامك، وقد قال رجلٌ مرة: (إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلانٍ مما يطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذٍ، فقال: يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم بالناس فليتجوز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة) متفق عليه.
وهذا حدث آخر في مناسبة أخرى: لما رأى عليه الصلاة والسلام ستراً فيه صور من ذوات الأرواح في بيت عائشة هتكه وتلون وجهه وقال: (يا عائشة! أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله).
ولما كلمه أسامة في شأن المرأة المخزومية التي سرقت لكي لا تقطع، قال: (أتشفع في حدٍ من حدود الله تعالى، ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) غضب جداً عليه الصلاة والسلام لما جاء يشفع في حدٍ من حدود الله.
ولما رأى النخامة في قبلة المسجد حكها وشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه صلى الله عليه وسلم.
وعن زيد بن خالد الجهني: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة؟ فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فادفعها إليه، فسأله عن ضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: فضالة الإبل؟ فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه فقال: مالك ولها، معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر فذرها حتى يلقاها ربها) يعني: صاحبها، فغضب فعنون عليه البخاري رحمه الله: باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره.
وروى أيضاً حديث أبي موسى قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها -مثل: متى الساعة؟ ونحو ذلك- فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس: سلوني ما شئتم -إلى آخر الحديث- فلما رأى عمر ما في وجهه عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله! إنا نتوب إلى الله عز وجل).
هذا حاله عليه الصلاة والسلام فكيف حال أصحابه؟ أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: [لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيءٍ من دينه دارت حماليق عينيه] وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد: [فإذا أريد أحدهم على شيءٍ من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون] قال الألباني: وهذا سند حسن، هذا يدل على أن الصحابة إذا أريد أحدهم على أمرٍ من دين الله، وانتهاك حرمات الله، فإن أحدهم لا يرضى بالباطل أبداً.
فلا بد أيضاً من الغضب، لكن الغضب لمن؟ الغضب لله عز وجل، هذه الغضبة المحمودة التي أخرجت خلفاء وأمراء جيوش إلى قتال الأعداء بسبب كلمة يستغيث بها مسلم بإخوانه، فيخرج الجيش والخليفة والمسلمون للقتال غضبةً لله تعالى، ودفاعاً عن دينه، وحمية ونصرة لهذا الدين.