هل يجوز للإنسان أن يطلب من شخص آخر يظن فيه الصلاح أن يستغفر له؟ ذكر ابن تيمية رحمه الله في كلام له ما يفيد ترك هذا من باب عدم اللجوء إلى المخلوقين، وأن الإنسان لا يلجأ إلى المخلوق ويقول له: ادع لي، ويطلب منه الاستغفار والدعاء، ووجّه بعض ما ورد في ذلك من الأدلة توجيهات خاصة، وأن ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من الأمة أن يدعوا له، فلأجل منفعة الأمة ومصلحتهم، لا لأجل حاجته إليهم، وأن كل ما ورد من هذا ففيه مصلحة للمطلوب منه، وليس لمصلحة للطالب.
وهناك من أهل العلم من ذهب إلى أنه لا حرج في طلب الاستغفار من الرجل الصالح، واستدلوا على ذلك بأدلة، فمنها قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}[النساء:٦٤].
وقد يقال إن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، لأن دعوته واجبة، وليس اللجوء إليه كاللجوء إلى شخص آخر، واستدل المجيزون أيضاً بحديث أويس القرني أن عمر رضي الله عنه وأرضاه قد كان يسأل عن القرنيين، ومنهم رجل اسمه أويس حتى استدل عليه، فأخبره بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:(إن رجلاً يأتيكم مع أمداد أهل اليمن) الذين جاءوا بطلب من عمر كمدد من المسلمين ليوافوا جيوش المسلمين في الشام والعراق، فكان من أعظم الناس نجدة أهل اليمن، خرجوا للجهاد في الشام والعراق، وكثير من ديار الشام والعراق فتحت وأكثر جيوش الفتح من اليمن، (وكان في أهل اليمن رجلٌ من قرن يقال له أويس له أم هو برٌ بها، وقد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم، فمن لقيه منكم، فليستغفر لكم) وفي رواية في صحيح مسلم: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن، سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أأنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مرادٍ، ثم من قرنٍ؟ قال: نعم، قال: فكان بك برصٌ فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم -وجاء في رواية أن هذا الموضع في السرة، يذكر مرضه ونعمة ربه، وفي نفس الوقت لا يشوهه في أعين الناس- قال: لك والدة؟ قال: نعم -فلما استوفيت الشروط والمعلومات- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مرادٍ، ثم من قرنٍ، كان به برص، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بها برٌ -هذا من أسباب رفع منزلة هذا الرجل- لو أقسم على الله لأبره ٠لو حلف على الله أن يحدث شيء، أو لا يحدث شيء، لحدث الذي يريد، ولم يحدث الذي لا يريد- فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل) فاستغفر لي، فاستغفر له.
فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
فلما كان من العام المقبل، حج رجلٌ من أشرافهم، فوافق عمر في الحج، فسأله عمر عن أويس، قال: تركته رث البيت، قليل المتاع، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مرادٍ، ثم من قرنٍ، كان به برص، فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بها برٌ، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل) الكلام هذا سمعه رجل من عمر، ذهب مباشرة إلى أويس.
فأتى أويساً، فقال: استغفر لي، قال أويس: أنت أحدث عهد بسفر صالح، فاستغفر لي، أي: أنت آتٍ من الحج، فأولى أن تستغفر لي، ثم انتبه أويس، قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فعرف المسألة، فاستغفر له، ففطن له الناس، وجعل الناس يأتون إلى أويس يقولون: استغفر لنا، فانطلق على وجهه، فلم يُعلم أين ذهب.
أيضاً استدلوا بقول إخوة يوسف لأبيهم:{قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}[يوسف:٩٧] وفي صحيح مسلم أن أم الدرداء قالت لـ صفوان بن عبد الله: أتريد الحج هذا العام؟ فقال صفوان: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:(دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملكٌ موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل) وابن تيمية رحمه الله كان يوجه كل هذا، ويدور على معنى أن الإنسان لا يطلب من الآخر دعاء، وإنما يطلب من الله مباشرةً، ولو كان الطلب جائزاً، لكن الأفضل تركه، لأن فيه نوع لجوء إلى المخلوق.
يعني: لا يكون الدعاء من أشخاص، بل يطلب من الله مباشرة، مع أن طلب الدعاء المباح جائز، لكن يقول: لأن فيه لجوء للمخلوق، والأحسن والأفضل أن يترك، ويسأل الله مباشرةً.