[أقوال العلماء في الهوى]
قال ابن القيم رحمه الله: ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقتٍ تحدث عليه حوادث جعل فيه حاكمان: حاكم العقل، وحاكم الدين، وأمره أن يرفع حوادث الهوى دائماً إلى هذين الحاكمين، وأن ينقاد لحكمهما.
والمقصود العقل المتبع الموافق للشرع وليس العقل المخالف للشرع، فالمخالف للشرع ليس بعقل في الحقيقة، وإنما سمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عما يضره.
وقال الماوردي رحمه الله في كلام نفيس له: فلما كان الهوى غالباً، وإلى سبيل المهالك مورداً؛ جُعل العقل عليه رقيباً مجاذباً، يلاحظ عثرة غفلته، ويدفع ذاكرة خطوته، وخداع حيلته؛ لأن سلطان الهوى قوي، ومدخل مكره خفي، ومن هذين الوجهين يؤتى العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه؛ قوة السلطان وخفاؤه.
أما الوجه الأول: فهو أن يقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه حتى يستولي عليه -أي: على العقل- مغالبة الشهوات، فيكل العقل عن دفعها، أي: أن أي إنسان واحد يمكن أن يكون عنده عقل يدفع به الشهوة، لكن إذا كثرت الشهوات سيتعب العقل من الدفع والدرء فيخف سلطانه ويقوى الهجوم فيضعف عن المنع فيقع، مع أنها واضحة في العقل أنها غلط، قال: وهذا يكون في الأحداث أكثر، وعلى الشباب أغلب، لقوة شهواتهم، وكثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم، وإنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم، وفعلاً تجد بعض الناس يقول: يا أخي! نحن شباب، وبعض الآباء أيضاً يعذرون أبناءهم الشباب بهذه فإذا عوتب بتصرف ولده الخطأ قال: هذا شاب مراهق، هذه الفترة لا بد منها، وماذا يعني لا بد منها؟ كأن يقول: لا تؤاخذ هذا الولد الشاب، فيقول الماوردي إنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم، كما قال محمد بن البشير:
كلٌ يرى أن الشباب له في كل مبلغ لذةٍ عذرا
كلما أراد أن يتبع لذة محرمة هونت عليه القضية أنه شاب، يقول: مازال شاباً صغيراً اصبر عليه، الآن يلعب ويلهو في الحرام لأنه شاب.
قال: وحسم ذلك أن يستعين بالعقل على النفس النفورة.
أي: نحن في تربية الشباب لا بد أن نقوي عندهم داعي العقل الذي يعني: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:١٠] أي: طريق الخير وطريق الشر، فيعرف الحق والباطل، الطاعة والمعصية، يعرف ما يضره وما ينفعه، على الأقل يعرف الشيء الذي يضر والشيء الذي ينفع، هذا الميزان والقوة التي في النفس، وقوة العقل إذا نميناها عند الشباب يصير عنده مركز تحكم قوي وعنده مقاومة قوية، أما إذا كان داعي العقل عنده ضعيف ولا يميز بين ما يضره وينفعه وليس عنده تلك القوة والسلطان، فعند ذلك إذا اجتمعت عليه الشهوات غلبت عقله الضعيف المسكين.
قال: وحق ذلك أن يستعين بالعقل على النفس النفورة، فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر، وقبح الأثر، وكثرة الإجرام، وتراكم الآثام، أي: يقال له: فكر! أنت الآن عندما تذهب تتابع الفتيات بالحرام ثم تقع في الزنا والفاحشة، أليس ذلك ضرراً عليك؟ هتكت عرضاً والله يغار أن تنتهك حرماته فتسببت في إنجاب ولد حرام فضيحة عليك وفضيحة عليها، وسمعتك تتلوث، وتجلب لنفسك المرض، وتفعل وتفعل، يعني: هذه الأشياء فيها تربية، وداعي العقل، هي أن تفكر وتستعمل العقل، فكر ما حالك في القبر؟ يوم القيامة وأنت في تنور من نار، وفي عذاب الزناة، فماذا تختار؟ لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) وأخبر أن الطريق إلى الجنة احتمال المكاره، لا يمكن اختراق الجنة إلا عبر المكاره، ولابد أن تتحمل لتصل، والطريق إلى النار اتباع الشهوات، لا أحد يصل إلى جهنم إلا على جسرٍ من الشهوات؛ لأنه قال: (حفت النار بالشهوات) الذي يدخل النار لابد أن يكون متبعاً للشهوات، حفت الجنة بالمكاره، ولن تنال إلا على جسر من التعب باتباع الهدى وترك الهوى واجتنابه.
إذاً: لابد أن نركز على هذا حتى يثمر العقل، فنقول للشباب والشابات ذكوراً وإناثاً: فكر بالعواقب والنتائج والمآلات، هذه المسألة فإذا انقادت النفس للعقل بما أُشعرت من عواقب الهوى لم يلبث الهوى أن يصير العقل مشهوراً وفي النفس مقهورا، ثم له الحظ الأوفر في الثواب الصالح وثناء المخلوقين، فالشاب يقول: أنا لو اتبعت الهدى فسأنال ثواب الله وثواب المخلصين، وإذا اتبعت الهوى يحصل علي كذا، في الدنيا فضيحة ومرض الخ، وفي الآخرة سخط الله والعذاب الأليم.
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:٤٠ - ٤١].
وقال الحسن البصري: أفضل الجهاد جهاد الهوى.
وقال بعض الحكماء: أعز العز الامتناع من ملك الهوى.
وقال بعض البلغاء: خير الناس من عصى هواه بطاعة ربه.
وقال بعض الأدباء: من أمات شهوته أحيا مروءته.
وطبعاً ليس المقصود بإماتة الشهوة المباحة والمستحبة، كلا، هي توجيه وعملية تنظيم وضبط الغريزة.
وقال بعض العلماء كلاماً بليغاً: ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة، وركب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب ابن آدم من كليهما فمن غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته على عقله، فهو شر من البهائم.
وقيل لبعض الحكماء: من أشجع الناس وأحراهم في الظفر في مجاهدته؟ قال: من جاهد الهوى طاعة لربه، واحترس في مجاهدته من ورود خواطر الهوى على قلبه.
قد يدرك الحازم من رأى المنى بطاعة الحزم وعصيان الهوى
قال الماوردي: وأما الوجه الثاني: فهو أن يخفي الهوى مكره حتى تتموه أفعاله على العقل، يعني: ليس كل حرام يأتي إلى الإنسان واضحاً وصريحاً، الهوى يستعمل أسلوب اللف والدوران والإخفاء والتدبير والتمويه والتغريب في قالبٍ يحبه الناس.
والهوى يموه فيتصور القبيح حسناً، والضار نفعاً، وهذا يدعو إليه أحد شيئين: إما أن يكون للنفس ميلٌ إلى ذلك الشيء، فيخفى عنها القبيح لحسن ظنها، وتتصوره حسناً لشدة ميلها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك الشيء يعمي ويصم) أي: يعمي عن الرشد ويصم عن الموعظة، وضبطها شيخٌ لي في النحو قرأت عليه: يعمي ويصمي.
وقال علي رضي الله عنه: الهوى عمى.
وأما السبب الثاني: فهو اشتغال الفكر في تمييز ما اشتهى، فيطلب الراحة في اتباع ما تسهل حتى يظن أن ذلك أوثق الأمرين، وأحمد الحالين، اغتراراً بأن الأسهل محمود والأعسر مذموم، فلا يعدم أن يتورط بخدع الهوى، وريبة المكر، في كل حسن ومكروه.
ولذلك قال عامر بن الطلق: الهوى يقظان والعقل غلب فهذا سبب نجاح عملية التمويل، فالهوى يقظان والعقل راقد والنفس تطلب الأسهل.
وقال سليمان بن وهب الهوى أمنع، والرأي أنفع.
وقيل في المثل: العقل الوزير الناصح، والهوى وكيل فاضح.
كيف نتغلب على السبب الأول وعلى السبب الثاني؟ التغلب أن يجعل فكر قلبه حكماً على نظر عينه، فإن العين رائد الشهوة، والشهوة من دواعي الهوى، والقلب رائد الحق، والحق من دواعي العقل.
وقال بعض الحكماء: نظر الجاهل بعينه، ونظر العاقل بقلبه، يعني أن الجاهل يبنى أنه حسن أو لا بالشيء السطحي الظاهر أمام العين، العاقل أو الذي سوف ينجو ينظر بعقله لا بعينه، ولذلك ممكن يكون أعمى وهو نادر، ثم يتهم نفسه في فوات ما أحبت وتشتيت ما اشتهت، إذاً من الطرق الكبيرة لمعالجة الهوى أن تنظر أين ميل نفسك، إذا رأيتها تميل في اتجاه معين اتهم نفسك وشك فيها أنها تريد هذا وهو محرم، أو فيه أمر لا يرضاه الله، ولذلك مالت إلى نفسك، فخالف الأصل فاتهم نفسك فيما أحبت وما اشتهت.
ثم انظر إذا صرت بين أمرين أيهما أثقل على النفس، فإن النفس عادة تريد الأسهل؛ لأن النفس عن الحق أنفر، وللهوى آثر؛ ولذلك قال العباس: إذا اشتبه عليك أمران فدع أحبهما إليك وخذ أثقلهما عليك، والثقيل يبطئ النفس وتظهر القضية بشكل أوضح مع البطء.
وقال علي رضي الله عنه: [من تفكر أبصر، والمحبوب أسهل شيء تسرع النفس إليه، وتعجل بالإقدام عليه، فيكون استدراك ولا ينفع التفكير بعد العمل، ولا الاستبانة بعد الفوز -إذاً: خرجنا الآن بأمرين فانظر ما تميل إليه نفسك فخالفه- وإذا تعرضت لأمرين فانظر أثقلهما عليك فرجح أن يكون فيه الصواب وأخفهما على نفسك فشك ورجح أن هذا فيه الخطأ والباطل].
إذا نظرنا إلى قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:٢٣] أي: اتخذ دينه هواه، لا يهوى شيئاً إلا ركبه، فهؤلاء الكفار لا يؤمنون بالله، ولا يحرمون ما حرمه، ولا يحللون ما أحله، إنما دينهم اتباع الهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:٢٣] ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:٢٣] لا يهوى شيئاً إلا ركبه، ولا يخاف الله، هذه بعض عبارات المفسرين في تفسير هذه الآية، حتى كان الواحد من العرب الكفار يعبد حجراً، فإذا رأى حجراً أحسن منه طرح الأول وعبد الثاني، لماذا؟: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:٢٣] أفرأيت -يا محمد- من اتخذ معبوده هواه فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحق الذي له ملكية كل شيء {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:٢٣] فليس في علمه طريق حقٍ يسير فيه.
وحق الهوى أن الهوى سبب الهوى ولولا الهوى في القلب ما وجد الهوى
ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله، ألا ترى أنه جعل الضلالة والحيرة فيمن أضله عن علم: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:٢٣] وهذا أشد شيء، ألا ترى أن العاشق من شدة إعجابه يكاد يعبد المعشوق.
ألا ترى أن أهل البدع لبس عليهم وأضلهم الله وبعضهم على علم، هل تظن أن شيوخ أهل البدع لم يطلعوا على كلام أهل الس