[اتباع الهوى في الفتاوى]
ومسألة اتباع الهوى في الأحكام والفتاوى صارت الآن منتشرة في عصرنا، وصار هناك ممن توسد الأمر من غير أهله، وبرز على الناس، وظهر في الصحف والشاشات من يفتي للناس على هواه، فصار هناك فساد كبير، وشرٌ مستطير.
وإذا ذكر الهوى تبادر إلى الذهن أنه يتعلق بالأمور العملية من الشهوات واللذات، بينما إذا نظرنا إلى الشريعة وجدنا أن الهوى يجمع كل مخالفة في الكتاب والسنة، وقد جعل الله تعالى الهوى مضاداً للشرع، فأي شيء مضاد للشرع فهو هوى، وفي باب العلميات من العقائد بعضهم لا يشعر بأنه يخالف أصلاً، بل ربما يشعر أنه على الحق وأنت على الباطل، ولذلك سبق الكلام بأن إبليس دخل عليهم من باب اتباع الأهواء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان من خرج عن وجه الكتاب والسنة من المنسوبين إلى العلماء والعباد يُجعل من أهل الأهواء" كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه، والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم تحدث عن الطرق المبتدعة وأن أصحابها أتباع الهوى، وأن أتباع السنة أصحاب العلم والعدل والهدى، ومخالفو السنة أصحاب هوىً وجهل وظلم.
وقد قال عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الجاثية:١٨ - ١٩] فالشريعة معلومة وكل ذوق ووجد وتفكير ووجهة لا تشهد لها الشريعة فهي من أهواء الذين لا يعلمون، ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شيء من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء، ويذمونهم، ويأمرون بأن لا يغتر بهم، وهكذا.
قال يوسف بن عبد الأعلى: قلت للشافعي: تدري يا أبا عبد الله ما كان يقول فيه صاحبنا -يريد الليث بن سعد - كان يقول: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق به ولا تعبأ به ولا تكلمه، فقال الشافعي: فإنه والله ما قصر.
هؤلاء المبتدعة مثل بعض الصوفية يدعون كرامات وهم على ضلال، فقال الليث رحمه الله: لا تثق به ولا تعبأ به، ولو رأيته يمشي على الماء ويطير في الهواء.
لماذا؟ لأن الشياطين تساعدهم على مقاصدهم السيئة وتجعل الناس معجبين بهم، ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله يذهب لمناظرتهم، يقول: كنت أدخل على الواحد منهم حوله الناس وهو في الهواء معلق، وشيخ الإسلام يعرف أن هذا تحمله الشياطين فيقول له أتباع هذا: انظر إلى شيخنا وكراماته هاهو في الهواء -مع أنه شيخ صوفي مبتدع منحرف- قال شيخ الإسلام: فأقرأ آية الكرسي فيسقط، ولذلك وإن رأيته يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتر بخوارقه، فالعادة تنخرق للمشرك والمسلم والكافر والموحد والمبتدع والمتبع، والعادة من الممكن أن تنخرق للولي وللكافر، وترى في الهند بعض الهندوس أو بعض البوذيين أو بعض السيخ أو بعض الكفرة المشركين يحصل لهم شيء عجيب، يدخل سيفاً من البطن ويخرجه من الظهر، ويدخل خنجراً في دماغه ولا يسيل منه قطرة دم، كيف هذا؟ تعينهم الشياطين، فالجني الذي كان مستعداً ليأتي بعرش ملكة سبأ من داخل قصرها، ويعبر به الجدران والنوافذ والأبواب، ويطير به من اليمن إلى الشام إلى سليمان عليه السلام، أيعجز أن يدخل السيف من البطن ويخرجه من الظهر؟! والجن عندهم قدرات.
فهؤلاء مثل أصحاب الطرق الرفاعية وغيرهم الذين تكلم عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية كـ البطائحية الذين يلفون الخرق الخضراء وغيرها، وأصحاب الطرق الذين يدعون أن عندهم كرامات، يقولون: انظروا هذا يخرق بطنه بالسيف ويضع الخنجر في دماغه ولا تحدث مشكلة، ويدخل سيخاً من جهة ويخرجه من الجهة الأخرى ولا يصير به شيء، ويمكن أن يصعد في الهواء كأنه يصعد على سلم، بل ويذهب في نفس اليوم إلى مكة ويرجع، ويقول الحُجَّاج الذين رجعوا بعد شهر وشهرين رأيناه في عرفة وفي مكة ورأيناه في الحرم.
قال شيخ الإسلام: ومن منكراتهم أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه، لأن الجني مستعجل، لا يقف لهم حتى يحرموا يذهب بهم بسرعة ويرجعهم، فيمرون بالميقات دون إحرام.
فإذاً: يقول الليث بن سعد رحمه الله: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق به ولا تعبأ به، ولا تكلمه.
قال الشافعي: فإنه والله ما قصر.
وقال عاصم: قال أبو العالية: [تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأبواق التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء، فحدثت الحسن -يعني: بكلام أبي العالية - فقال: صدق ما نطق، فحدثت حفصة بنت سيرين فقالت: أنت حدثت محمداً بهذا؟ قلت: لا.
قالت: فحدثه إذاً] تقول: هذا كلام نفيس انقله.
وقال أبي بن كعب: [عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت به عيناه من خشية الله سيعذبه -يعني: إذا فعل هذا لا يمكن أن يعذب- وما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك -يعني على هذه اليبوسة- إذا أصابتها ريحٌ شديدة فتحات عنها ورقها ولتحط عنه خطاياه كما تحات عن تلك الشجرة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم].
وكذلك قال عبد الله بن مسعود: [الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة] وقيل لـ أبي بكر بن عياش وهو رجل فاضل من المقرئين الكبار في هذه الأمة، لما حضره الموت قال لابنه: يا بني لا تعص الله في هذه الحجرة فإني ختمت القرآن فيها ثمانية عشر ألف ختمة.
هذا عند الموت، فهو يريد أن يعظ ولده، قال: لا تعص الله في هذه الغرفة.
وقيل لـ أبي بكر بن عياش: يا أبا بكر من السني؟ قال: الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها، وهذا أصلٌ عظيم، فالسني إذا ذكرت عنده الأهواء والبدع لا يدافع عنها إطلاقاً، بل إنه يغضب منها ولا يغضب لها، وهذا أصلٌ عظيم من أصول سبيل الله وطريقه.
وكذلك فإن شيخ الإسلام قد تحدث عن بعض أهل الأهواء الذين جعلوا رسوماً وألواناً وملابس معينة، وخطوات معينة، وأشكالاً معينة لهم، وقالوا: هذه أشكال الصالحين، وابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، مثل: حلق الرأس في غير الحج والعمرة.
-وطبعاً تعود حلق الرأس في غير الحج والعمرة مكروه- وهو من فعل الخوارج سيماهم التحليق.
ولذلك قال: اتخذ طوائف من فقراء الصوفية ديناً، جعلوه شعاراً وعلامة على أهل الدين والنسك والخير؛ من شكل معين وملابس معينة وأكل معين، وقالوا: هذا هو الطريق.
وذات مرة ذهب أحد علماء هذا العصر وكان في بداية أمره يبحث عن الحق -وكان شاباً- فوجد في البلد رجلاً يدعي المشيخة ويدعي أنه من الصالحين، وأنه من أولياء الله، فقال: ماذا عندك؟ قال: أنا أوصلك إلى الله في أربعين يوماً، قال: كيف؟ قال: تأخذ هذه الأذكار وتقرؤها كل يوم، وتأكل سبع حبات عدس وتفعل كذا كذا، وبعد أربعين يوماً تصل إلى الله قال: اكتب لي بهذا ورقة؛ فكتب، قال: اختمها لي فوقع عليها، ووقع عليها، ثم ذهب ورجع بعد أربعين يوماً وقال: أنا جربت هذه الطريقة وما وصلت إلى الله، وهذا يزعم أنه يكلم الله -تعالى الله عن ذلك- يكلم الله بحبل سرواله ثم قال ذلك الشاب: أيها الناس هذا ضلال شيخكم المزعوم كتب في أوراق وقال: توصلك إلى الله في أربعين يوماً.