[خلقه صلى الله عليه وسلم]
وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد دعا إلى مكارم الأخلاق بقوله وفعله، وكان قدوة حتى إن الله مدحه في كتابه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:٤] فأكد أنه قد تخلق بالأخلاق الحسنة بهذه المؤكدات في الآية، وإنك: أكدها بإن، لعلى: أكدها باللام، خلق: هذه النكرة تفيد التفخيم، تفخيم شأنه وحاله وخلقه صلى الله عليه وسلم، ثم وصف هذا الخلق بأنه عظيم، وهذا أمر رابع.
وفي الصحيحين عن هشام بن حكيم أنه سأل عائشة رضي الله عنها: (كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان خلقه القرآن، فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً) لأن الجواب كان معبراً ودقيقاً، أي أن تصرفاته عليه الصلاة والسلام كانت ترجمة حية لأوامر الله ونواهيه المذكورة في القرآن، وعن سبب بعثته يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) هذه هي الشخصية العظيمة المتصفة بالخلق العظيم ((وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)).
قالت عائشة رضي الله عنها: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق -لم يكن يرفع صوته في مجامع الناس- ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح) وقالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادماً ولا امرأة) وجاء -أيضاً- في الحديث الصحيح: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا) أي: ما سئل شيئاً من متاع الدنيا المباح، إذا كان ميسوراً أعطى، وإذا كان معسوراً ليس عنده وعد بالخير في المستقبل.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق النبي صلى الله عليه وسلم) حديث صحيح.
وعن عمرو بن العاص قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو أبو بكر؟ قال أبو بكر، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو عمر؟ فقال: عمر، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو عثمان؟ قال: عثمان، فلما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني، فلوددت أني لم أكن سألته) حديث صحيح.
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: (يا رسول الله! إنك تداعبنا، قال: نعم غير أني لا أقول إلا حقاً) هذا نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وألفاظه وتعاملاته.
أما في تواضعه فكان عجباً من العجب.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن امرأة من الأنصار ومعها صبي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن لي إليك حاجة، فقال: اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك) وفي رواية لـ مسلم: (فخلا معها في بعض الطريق حتى فرغت من حاجتها) وليس المقصود أنه اختلى بها الخلوة المحرمة، وإنما في الطريق، ابتعد شيئاً ما عن الناس حتى لا يسمعوا كلامها؛ لأنها تريد أن تقول له شيئاً خاصاً.
وعن أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة، ويجيب عليه الصلاة والسلام) والإهالة السنخة هي الدهن المتغير الرائحة من طول المكث، ليس خبيثاً ولا متعفناً، لكن حصل له تغير في رائحته من طول مكثه، ما كان يستحقر هذه الأشياء، ولو كانت بسيطة كان يلبي الدعوة: (لو دعيت إلى كراع لأجبت).
جاء أعرابي يوماً يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأعطاه صلى الله عليه وسلم ثم قال له: (أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: ولا أجملت -لا أحسنت ولا أجملت- فغضب المسلمون وقاموا عليه، ثم قام صلى الله عليه وسلم ودخل منزله فأرسل إليه -إلى الأعرابي- وزاده شيئاً فقال له: أحسنت إليك؟ قال: نعم.
فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت ما قلت آنفاً، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم حتى يذهب ما في صدورهم عليك، قال: نعم.
فلما كان الغد جاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضي أكذلك؟ -يقول للأعرابي أكذلك؟ أمام الناس- قال: نعم.
فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها) -الآن لاحظ التطابق بين المثل أو هذه القصة والأعرابي- فقال لهم: (خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار).