[العمل بالعلم الشرعي]
ثم نحتاج بعد قضية التعلم العمل بالعلم، فقد يوجد عند كثير من الملتزمين بالدين أطراف من العلم، لكن بكم يعملون منها؟ (مثل علم لا يعمل به كمثل كنزٍ لا ينفق منه في سبيل الله) موقوف على أبي هريرة.
قال حفص بن حميد: دخلت على داود الطائي أسأله عن مسألة أشكلت، وكان كريماً، فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب، أليس يجمع آلته؟ قال: نعم، قال: فإذا أفنى عمره في الآلة، فمتى يحارب؟ شخص يجمع ويجمع، ثم لا يستعمل.
والعلم ليس بنافعٍ أربابه ما لم يفد عملاً وحسن تبصرِ
سيان عندي من لم يستفد عملاً به وصلاة من لم يطهرِ
صلاة بلا طهارة مثلها مثل هذا العلم الذي لا يعمل به، علمٌ بلا عمل كشجرة بلا ثمرة.
يقول عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن أنهم كانوا يستقرئون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات، لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: وجدت رأي النفس في العلم حسناً، أي: النفس مقبلة على التعلم، فهي تقدمه على كل شيء، وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، غير أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم النوافل عن العلم قد ضلوا، ولكن في المقابل علم بدون تطبيق ولا ممارسة، قال: رأيت نفسي واقفةً مع صورة التشاغل بالعلم فصحت بها، فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف؟ أين التعلق؟ أين الحذر؟ أما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟! أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكل؟! ثم أنه قام حتى ورمت قدماه؟! أما كان أبو بكر شديد النشيج كثير البكاء؟! أما كان في خد عمر خطان من آثار الدموع؟! أما كان عثمان يختم القرآن في ليلة؟! أما كان علي يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: [يا دنيا غري غيري]؟! أما كان الحسن يحيا على قوة التعلق بالله؟! أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد، فلم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة؟! أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟! أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟! قال: إن أباكِ يخاف عذاب البيات، أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة وهو يقول: وا لهفاه سبقني العابدون وقطع بي؟! أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف؟! أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟! أما تعلمون أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، احذري من الإخلاد إلى صورة العلم وترك العمل به.
كان الأولون إذا نقلوا المعلومة؛ تجد الجدية في النقل، إذا سمع شيئاً أثر فيه، يقول سعد بن عبيدة: جلست أنا ومحمد الكندي إلى عبد الله بن عمر، ثم قمت من عنده، فجلست إلى سعيد بن المسيب، فجاء صاحبي وقد اصفر لونه، وتغير وجهه، فقال: قم إليَّ، قلت: ألم أكن جالساً معك الساعة؟ فقال سعيد: قم إلى صاحبك، فقمت إليه، فقال: ألم تسمع إلى ما قال ابن عمر؟ قلت: وما قال؟ قال: أتاه رجلٌ، فقال: يا أبا عبد الرحمن أعليَّ جناحٌ أن أحلف بالكعبة؟ قال: ولم تحلف بالكعبة؟ إذا حلفت بالكعبة، فاحلف برب الكعبة، فإن عمر كان إذا حلف قال: كلا وأبي، فحلف بها يوماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلف بأبيك، ولا بغير الله، فإنه من حلف بغير الله، فقد أشرك) رواه الإمام أحمد.
حديث سمعه رجل فقام مصفراً وجهه متغيراً لونه مما سمع من القصة، ولذلك ينبغي أن يكون عندنا تدقيق، وجدية في طلب العلم، وينبغي أن يكون عندنا عمل بالعلم، وأن يكون هناك أدب في الطلب، فإن بعض الشباب قد يتحمس في الطلب، لكنه لا يرزق أدباً، فيسيء مع الشيخ، ويسيء في السؤال، أو في الأسلوب، أو في الجلسة، أو في الاعتراض.
عن عميرة قال: إن رجلاً قال لابنه: اذهب فاطلب العلم، فخرج فغاب عنه ما غاب، ثم جاءه فحدثه بأحاديث، فقال له أبوه: يا بني اذهب، فاطلب العلم، فغاب عنه أيضاً زماناً، ثم جاءه بقراطيس فيها كتبٌ فقرأها عليه، فقال له: هذا سوادٌ في بياض، اذهب فاطلب العلم، فخرج، ثم غاب عنه ما غاب، ثم جاءه، فقال لأبيه: سلني عما بدا لك، فقال له أبوه: أرأيت لو أنك مررت برجلٍ يمدحك ومررت بآخر يعيبك، ماذا تفعل؟ قال: إذاً لم ألُم الذي يعيبني، ولم أحمد الذي يمدحني، قال: أرأيت لو مررت بصفيحة ذهبٍ؟ قال: إذاً لم أهيجها، ولم أقربها، فقال: اذهب، فقد علمتَ.
الآن جاء العلم، لما حصل الزهد في كلام الناس، والزهد في الدنيا، وقد شابهه ابن القيم في كلامه الذي قلناه في أول الدرس، قطع الطمع بالدنيا وقطع الطمع بكلام الناس هذا علامة الإخلاص.
ينبغي أن يكون عندنا اشتغال بالطاعات، وقيام بالحقوق الشرعية عند حدوث المهمات والمُلِمَّات واستنفار عند حضور مواسم العبادة.
لما تولى عمر بن عبد العزيز، أتى بزوجته فاطمة، فخيرها بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت، وبكت جواريها من بكائها، فسمعت ضجةٌ في دارهم، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله، وقال له رجل: تقرب إلينا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول:
قد جاء شغلٌ شاغلٌ وعدلت عن طرق السلامة
ذهب الفراغ فلا فراغ لنا إلى يوم القيامة
هذه المهمة العظيمة ليست لطلب الفراغ، فقد انتهى الفراغ، وهكذا ينبغي أن يشغل الوقت بطاعة الله عز وجل.