للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آنية الله في الأرض هي القلوب]

أيها الإخوة: يتفاوت الناس في استقرار العلم في صدورهم، وفي اتساع العلم، وفي اتساع القلوب لهذا العلم تفاوتاً يرتبط ارتباطاً مباشراً بالإيمان، واعلموا بأن الماء النازل من السماء لا يحتمله وادٍ واحد؛ لكثرته، وكذلك الوحي النازل من السماء لا يحتمله كله قلبٌ واحدٌ، وإنما تتفاوت القلوب، لا يحيطون بالله علماً، وهذا من أدلة عجز البشر، وعلى أنهم مهما وصلوا إليه من العلم في العلوم الشرعية، فإنهم لن يحيطوا بعلم الله أبداً، بل ولو حتى بما أنزله عليهم من القرآن، ولذلك لا بد أن نترفق في أخذ العلم، ولا بد أن نجاهد أنفسنا قليلاً قليلاً.

وأمر القلوب في اتساعها للوحي والإيمان أمرٌ عظيم جداً، هذا القلب الذي يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كالمضغة في صغره، والمضغة هي: الشيء اليسير، يستطيع أن يحوي في جنباته إيماناً عظيماً كبيراً جداً، فإن في بعض قلوب العباد- أيها الإخوة- من العلم والإيمان ما لو نزل على جبل، لتركه قاعاً صفصفاً متصدعاً من هذا العلم والإيمان.

انظروا إلى عظمة الله في خلقه، خلق قلوب العباد صغيرة في الحجم الحسي، لكنها كبيرةٌ جداً في الحجم المعنوي، تسع علماً كثيراً، وإيماناً عظيماً، وتسع من المعرفة والعلم بالله أشياء كثيرة لمن كان له قلب صحيح أو ألقى السمع وهو شهيد.

وكذلك- أيها الإخوة- يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبر بأن لله آنيةً في الأرض، والآنية جمع الإناء، فالله تعالى له آنية في الأرض، ما هي هذه الآنية؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني عن أبي عنبة رضي الله عنه وأرضاه: (إن لله تعالى آنيةً من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها) يملؤها الله نوراً وعلماً وإيماناً لمن كان له قلب (وأحبها إليه) أحب هذه الآنية، هذه القلوب (وأحبها إليه ألينها وأرقها) التي إذا سمعت آيات الله تتلى عليها، ترى جلود أصحابها تقشعر من خشية الله عز وجل، هذه الآنية التي يملؤها الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته ما يوصل إلى خشيته وعبادته.

المطر عندما ينزل من السماء، فيغسل الأرض، ويتجمع في هذا الوادي يحمل معه في هذا الوادي الزبد -الغثاء- الذي يطفو على سطح الماء ويتجمع في هذا الوادي عالياً على الماء.

هذا الزبد- أيها الإخوة- يكون رابياَ عالياً منتفخاً فوق الماء، ولما كانت الأودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه، كما يمر عليه السيل فيحتمله، فإن هذا الغثاء بعد فترة من الزمن يفرقه الوادي، ويقذفه إلى جنبيه، ويتعلق بالأشجار، وتتقاذفه الرياح، فتأخذه، ويظهر الماء في الوادي لمّاعاً صافياً يفيد الناس، فيستقون منه ويرعون، فكذلك العلم والإيمان إذا خالط القلوب، أثار ما فيها من الشهوات، عندما ينزل الماء على الأرض فيسيل، يجرف معه من هذه الأرض كل ما هب ودب من النافع وغير النافع حتى يصير زبداً عالياً فوق سطح الماء، هذا العلم عندما يدخل القلوب، وتخالط بشاشته، فإنه يثير ما في القلب من الشبهات والشهوات، يثيرها لا ليبقيها في القلب، وإنما يثيرها ينفض القلب نفضاً فيثير ما فيه من أمراض الشهوات والشبهات، يثيرها ليقلعها، ويذهب بها حتى يُنقي القلب من هذه الأدران والأخلاق الرديئة.

وإذا ذهبت الشهوات والشبهات، يبقى القلب صافياً من كل ما علق به وكدّره، ويبقى هذا القلب فيه العلم والإيمان يفيد الناس تعليماً، ويفيد النفس خشيةً وعملاً وعبادةً وتطبيقاً، كما يفيد الماء الذي بقي في الوادي، فإنه ينبت الأشجار على جنبتي الوادي، ويستقي منه الناس، ويشربون، ويسقون أنعامهم بإذن الله.

وكذلك هذا العلم إذا نزل في القلوب، ينبت الله به أشجار العبادة والخشية زهية قائمةً على أصولها في قلوب المؤمنين، وكذلك فإن هذا الماء يستقر في الوادي -عبَّر هنا بالوادي ولم يعبر بالنهر حتى يبين الاستقرار الحاصل للماء في هذا الوادي- كما يحصل به الاستقرار للعلم عندما ينزل في القلوب، فإنه يبقى فيها ثابتاً متكاثراً فيه البركة والنفع العظيم، واستقر العلم والإيمان في جذر القلوب، فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاءً ويزول شيئاً فشيئاً، ويبقى العلم والإيمان نافعاً، فكان عباد الله أعلاهم قدراً أكثرهم إحاطةً ووعياً بما أنزل الله تعالى.

كان الوادي قبل أن ينزل الماء عليه جافاً منتناً متسخاً، فيه من أكدار الطبائع ما يجعل فيه من الشوائب أشياء كثيرة، فلما نزل الماء، غسل الأودية، ونظفها، وأزال الخشونة والجفاوة التي فيها، فكذلك قلوبنا تكون فيها من مخالطة الحياة المادية قسوةٌ كبيرةٌ، وفيها جفاءٌ كبيرٌ، وجفافٌ عظيم، فعندما ينزل عليها الوحي من السماء يطريها، وينعمها، ويصلحها، وينظفها، يجب أن يفعل الوحي بقلوبنا كما يفعل الماء النازل من السماء بأودية الأرض وطرقاتها.