[مواقف تربوية مع آداب العلماء]
بالإضافة إلى الأخلاق: الآداب العظيمة التي نتعلمها، وسير العلماء الصالحين -أيها الإخوة- هذه عبر وفوائد مليئة بالمواقف التربوية، فهذا شيخ عظيم من المحدثين، جالس في الحلقة في الدرس وكانت أمه كبيرة في السن، والدرس في بيته، فتقول له: يا فلان، قم ألقِ الشعير للدجاج.
الآن هذا صاحب الفضيلة العلامة الحافظ الشيخ في المجلس يدرس الطلاب، وأمه كبيرة في السن قد لا ترعى كثيراً من الانتباه لمثل ذلك، وعندها دجاج، ويحتاج إلى شعير، فقالت: يا فلان، قم ألقِ الشعير للدجاج، فترك الدرس وقام يلقي الشعير للدجاج ويرجع، براً بأمه، ولم يقل لها: عيب! الناس أمامنا، وسأفعل بعد الدرس، هذا الكلام الذي قد يقوله أي أحد، ولكن يقطع الدرس ويذهب.
وبعضهم ربما يصبر على أمر من هذا، قد يُبتلى بوالد فيه شيء في عقله، مثل واحد من كبار المحدثين كان له والد يجلس في المجلس في وسط الناس، فيرى الناس مجتمعين على ولده فينبسط ويقول: إن هذا خرج من هذا، ويشير إلى عورته؛ متباهياً بولده، وهذا من خفة عقله، فيصبر عليه براً به، وما نهره وما طرده وما قال: هذا يمنع عن المجلس، والناس يقدرون له، ويقدرون للعالِم موقفه براً بأبيه! ومما علمونا آداب الطعام، كيف كانوا يأكلون؟ من آداب الطبري في الأكل: أنه كان إذا تناول اللقمة سمى ووضع يده اليسرى على لحيته، وكان له لحية كثة، فيضع يده اليسرى على لحيته ليوقيها من الدسم، فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده، ويتناول الطعام لقمةً لقمةًً من جانبٍ واحدٍ من القصعة.
يقول محمد بن إدريس الجمال: حضرنا يوماً مع أبي جعفر الطبري وليمة، فجلست معه على مائدة، فكان أجمل الجماعة أكلاً، وأظرفهم عِشرةً، وكان الطبري إذا جلس لا يكاد يُسمع منه تنخم ولا تبصق - ليس مثل بعض الناس، يخرج البلغم من آخر شيء ومن أول شيء، وبأعلى صوت، والجشاء حدث ولا حرج- وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله ومسح جانبي فمه هكذا بغاية الأدب في أكلهم، وما يخرج منهم شيء من الأصوات أو اللعاب، وهذا فيه غاية الأدب.
هل سمعتم رفسة تربوية؟! قال أحمد بن منصور الرمادي: خرجت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين خادماً لهما؛ فلما عدنا إلى الكوفة، قال يحيى بن معين لـ أحمد بن حنبل: أريد أن أختبر أبا نعيم.
فقال له أحمد بن حنبل: لا تفعل الرجل ثقة، فقال يحيى بن معين: لابد لي، فأخذ ورقةً فكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم، وجعل على رأس عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديثه، ثم جاءوا إلى أبي نعيم، فدق عليه الباب، فجلس على دكان طينٍ مرتفع -حذاء بابه- وأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه، وأخذ يحيى بن معين فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان، فأخرج يحيى بن معين الطبق فقرأ عليه عشرةَ أحاديث وأبو نعيم ساكت، ثم قرأ الحادي عشر، فقال له أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم ساكت، فقرأ الحديث على رأسها الزائد، فقال أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالث وقرأ الحديث الثالث على رأسها، فتغير أبو نعيم -عرف أن المسألة امتحان- وانقلبت عيناه، ثم أقبل على يحيى بن معين فقال: أما هذا -وذراع أحمد بن حنبل في يده- فأورع من أن يعمل مثل هذا، وأما هذا -يريدني- فأقل من أن يفعل مثل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل! ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين، فرمى به من الدكان وقام فدخل داره، فقال أحمد لـ يحيى: ألم أمنعك من الرجل! وأقل لك: إنه ثبت؟! قال: والله إن رفسته أحب إلي من سفري.
وماذا نقول -أيها الإخوة! - في قصص علمائنا ومواقفهم، ولقد لفت نظري مرةً خبر في سير أعلام النبلاء، فقلت: سبحان الله! هؤلاء العلماء من قديم يؤخذ منهم المواقف، ليس فقط منهم، بل من بعض العامة نأخذ مواقف، بل من بعض اللصوص، وهذا خبر طريف نختم به المجلس: يقول أحمد بن المعذل: كنت عند ابن الماجشون، فجاءه بعض جلسائه، فقال: يا أبا مروان أعجوبة! خرجت إلى حائطي بالغابة، -بستان- فعرض لي رجل -قاطع طريق في مكان مهجور- فقال: اخلع ثيابك، فقلت: لم؟ قال: لأني أخوك وأنا عريان، قلت: فالمواساة -نقسمها بيني وبينك- قال: لقد لبستها برهةً -بقي دوري أنا- قال: فتعريني: قال: قد روينا عن مالك أنه قال: لا بأس أن يغتسل الرجل عرياناً.
قلت: ترى عورتي! قال: لو كان أحد يلقاك هنا ما تعرضت لك -لو أعرف أن هنا أناساً سيكونون في هذا المكان لما خرجت عليك في هذا المكان أصلاً- قلت: دعني أدخل حائطي وأبعث بها إليك.
قال: كلا! أردت أن توجه عبيدك فأمسك.
قلت: أحلف لك.
قال: لا تلزم يمينك للص، فحلفت له بها طيبةً بها نفسي، فأطرق يفكر، ثم قال: تصفحت أمر اللصوص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا فلم أرَ لصاً أخذ بنسيئة -بالآجل لابد أن يكون نقداً- فأكره أن أبتدع، فخلعت له ثيابي.
أيها الإخوة: نحن بحاجة وبخاصة في هذا الزمان الذي قل فيه العلم وقلَّت فيه التربية، وقد يوجد عند بعض الناس علم ولا يوجد تربية نحتاج حاجة ماسة للتربية، ونحتاج للمربين، والمربون الذين يحسنون التربية قلة، ولكن الذكي صاحب البصيرة لن يعدم أن يجد ولو من الأموات من يستفيد من سيرتهم ويتربى عليها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من الربانيين الذين يعلمون الناس، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع وحُسن الخلق وحُسن الأدب، والإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب قريب.