علم السلف كان كبيراً وكلامهم كان قليلاً
كانت مؤلفات الأولين قليلة ولكنها كثيرة البركة، ومؤلفات المتأخرين كثيرة ولكن بركتها قليلة، وكذلك كلام السلف قليل، لكن مدلوله كبير ومبارك ونافع، وكلام المتأخرين كثير وكثير، تفريعات كثيرة جداً ولكن بركته قليلة.
ومن يتأمل في بعض كتب المذاهب التي فيها هذه الفروع الكثيرة: فصلٌ، فصلٌ، فصلٌ، والمجلدات تزيد، وبعض الناس يقول: أين كان علم مالك والشافعي وأحمد وابن المبارك والثوري والأوزاعي، أين كان عن هذه المسائل؟ فيقال له: قال ابن رجب رحمه الله: (وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم باختصاصه بعلم دونهم، ولكن حباً للكلام، وقلة ورع، كما قال الحسن وسمع قوماً يتجادلون: "هؤلاء قوم ملوا العبادة، وخف عليهم القول، وقلّ ورعهم فتكلموا".
وقال مهدي بن ميمون: سمعت محمد بن سيرين وماراه رجلاً-جادل محمد بن سيرين - ففطن له، فقال: "إني أعلم ما يريد، إني لو أردت أن أماريك كنت عالماً بأبواب المراء " -أنا أعلم بالمناظرة والجدال والأصول، لكن لماذا أضيع وقتي معك؟ وقال جعفر بن محمد: "إياكم والخصومات في الدين، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق".
وقال عمر بن عبد العزيز: "إن السابقين عن علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا، وكانوا هم أقوى على البحث لو بحثوا".
وقد فتن بعض المتأخرين بهذا، وظنوا أن من كثُر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك، وكذلك فإن من كثرت مسائله وتفريعاتها، فهو أعلم ممن قلَّ كلامه وبحثه، وكانت مؤلفاته أقل وأوراقها أقل- وهذا جهل محض، وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كـ أبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا؟ كلامهم أقلّ من كلام ابن عباس وهم أعلم منه، وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم).
فعلاً: لو جربت الآن المنقولات عن السلف لوجدت كلام الصحابة أقل من كلام التابعين، وكلام التابعين أقل من كلام تابعي التابعين، وتابعي التابعين كلام أكثر من كلام التابعين، وكلام التابعين أكثر من كلامهم الصحابة، من الأعلم؟ الصحابة، ثم من؟ جيل التابعين بالتأكيد.
فكيف نجدهم أعلم وكلامهم أقل؟ هذه الملاحظة التي يجب أن ننتبه لها.
قال: (فليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكن نور يُقذف في القلب يفهم به العبد الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختُصر له الكلام اختصاراً).
فإذاً: تجد الآن فيها قول عن ابن مسعود كلمة كلمتين جملة سطر، وتجد في كلام بعض المتأخرين صفحات وأبحاثاً طويلة جداً جداً، من الذي كلامه أكثر بركة وأصوب وأنفع؟ طبعاً كلام الصحابة مع قلته ووجازته، ولذلك العلم ليس بكثرة تسويد الصفحات، ولا بكثرة الآراء والأقوال، لكنه نور يقذفه الله في قلب العالم خاصة الذي يسير ويمشي على الكتاب والسنة، فيأتي لك بالحكم.