والهجرة بطبيعة الحال أمر مهم جداً؛ لأن المسلم إذا بقي بين الكفار فإنه سيكون من المعينين لهم ويكثر سوادهم، وينتفع المشركون بطاقاته وإمكاناته، في الوقت الذي يحرم المسلمون من هذا الرجل المسلم ومن طاقاته وإمكاناته، من صناعة وزراعة وخبرة حربية ونحو ذلك، بالإضافة إلى أن المسلم إذا جلس بين الكفار فإنه يتعرض للفتنة، بالإضافة إلى أنهم قد يجبرونه على الخروج معهم في الحروب وتكثير سوادهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:(من جاء مع المشرك وسكن معه فإنه مثله) رواه أبو داود.
وهذا يدل على وجوب الخروج من بين المشركين إذا كان هناك مكان للمسلمين يأوي إليه الشخص آمناً مستقراً.
وفي حالة وجود بلد الإسلام الذي تطبق فيه شريعة الله تعالى، ويستقبل المسلمين لتكثير سوادهم وانتفاع البلد بهم، فإنه تجب الهجرة من بلاد الكفار إليه، وبعض المسلمين تأخروا عن الهجرة تحت ضغوط الأزواج والأولاد، فلما هاجروا بعد فترة ورأوا الذين سبقوهم من المهاجرين وقد تفقهوا في الدين، هموا بمعاقبة زوجاتهم وأولادهم، وكان ذلك سبب نزول الآية الكريمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}[التغابن:١٤] ثم أمر الله تعالى بالصفح والعفو، وهذا يدل على أن الزوجة والأولاد قد يكونون من العوائق التي تعيق تقدم الشخص في الدين وتفقهه فيه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام:(الولد مجبنة مبخلة مجهلة محزنة) مجبنة، أي: يريد الأب أن يجاهد في سبيل الله فيتذكر الولد وأنه يحتاج إليه ونحو ذلك فيقعد، يريد الأب أن ينفق في سبيل الله فيتذكر الأولاد، يقول: أولادي أحوج فلا ينفق، يريد أن يذهب لطلب العلم فيشغله أولاده عن طلب العلم فيبقى في جهل، محزنة: أي أن الولد يمرض -مثلاً- فيحزن الأب ويصيبه الكرب، وإذا كان الولد عاقاً فإن ذلك يكون الهم اللازم والمصيبة الكبيرة والحزن العظيم في نفس الأب.
ولذلك حذرنا الله من الركون إلى فتنة الزوجة والأولاد، وأمر بمجاهدتهم في الله عز وجل، وأن نحملهم على طاعة الله تعالى:{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم:٦].
واستمرت الهجرة من مكة ومن غير مكة إلى المدينة، حتى إن المدينة ضاقت بسكانها المتزايدين وما يحتاجونه من القوت وخصوصاً بعد الخندق، فلما صارت وقعة الخندق وبانت قدرة المسلمين على الدفاع عن كيانهم أمام الأحزاب مجتمعين، ولم تعد المدينة بحاجة إلى مهاجرين جدد، نظراً لأنه قد صار فيها القوة الأساسية التي يمكن الدفاع بها عن البلد ككل، وحصل نوع من الازدحام في المدينة، وصار هناك شيء من الشح في القوت والمسكن - طلب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المهاجرين بعد الخندق العودة إلى ديارهم قائلاً لهم:(هجرتكم في رحالكم) لأنه لم تعد هناك ثمة حاجة لإقامتهم في المدينة، بل صارت المصلحة أن يقيموا في أماكنهم وقبائلهم وأحيائهم، في الدعوة إلى الله خارج المدينة لتوسيع رقعة الإسلام.
ولكن ذلك لم يكن إيقافاً للهجرة؛ لأن الهجرة من مكة لم تتوقف إلا بعد الفتح، بقوله صلى الله عليه وسلم:(لا هجرة بعد الفتح) أي: لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فلأي شيء يهاجر منها؟! فانقطعت الهجرة وما عاد هناك أجر للهجرة من مكة إلى المدينة؛ وبذلك سقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية.