[الصدق]
ومن الأخلاق العظيمة التي تكون سبباً مباشراً في نجاح الداعية إلى الله عز وجل: (الصدق).
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:١١٩] {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء:٨٠].
فالداعية الصادق مع الله، الصادق مع الناس، الذي عهد عنه صدق الحديث، يرى أثر صدقه في وجهه، والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان بعض الناس يسمع كلامه وهو يدعوهم وهم لم يروه قبل ذلك، وإنما أتوا مكة فرأوه لأول مرة، كانوا يشهدون أن وجهه ليس بوجه كذاب، ذلك لظهور أثر الصدق على وجهه صلى الله عليه وسلم وفي كلامه، فكلام الإنسان الصادق يؤثر أثراً بالغاً، ولذلك فلا بد من الحذر الشديد من الوقوع في الكذب، فإن الكذب من الأشياء التي تفقد المدعو الثقة في الداعية.
وكذلك: الحذر من استخدام التورية، فإن الداعية قد يفهم التورية، أما المدعو فلا يفهمها إلا على أنها كذب، ولو أن الداعية كذب مرة واحدة فقط مع أحد المدعوين فسيكون ذلك سبباً كافياً في انفضاض هذا المدعو عنه، أذكر قصة عبَّر فيها أحد هؤلاء المدعوين عن ألمه مما حصل من شخصٍ تأثر به والتزم بسببه، فصار يتصل به من وقتٍ لآخر، فاتصل به ذات يوم بالهاتف، فكانت زوجته التي ردت، فقال: فلانٌ موجود؟ فقالت: من يريده؟ قال: قولي له فلان، فقالت: لحظة، ونسيت أن تضغط على الزر الذي يغلق الصوت، ونادت زوجها تقول: فلان يريدك، فقال لها: قولي له: نائم، فارتجت الدنيا في وجه هذا الشخص.
عندما يضع الإنسان ثقته في داعية ثم يفاجأ بتصرف من مثل هذه التصرفات فلا شك من اهتزاز كل القيم التي تلقاها منه، ليس فقط موضوع الصدق، بل كل المفهومات والتصورات التي أخذها عنه سوف تهتز في نظره، وإذا لم يكن لهذا المدعو عصمة ورحمة من الله فقد ينتكس.
ولذلك نحن عندما نتكلم الآن عن بعض الأخطاء من قبل بعض الدعاة فإننا نقول للمدعوين أيضاً: إن أخطاء الدعاة إلى الله عز وجل معكم ليست عذراً لكم مطلقاً في ترك اتباع الحق، إذا أخطأ داعية عليك، أو جهل أو أساء خلقه معك، فإنك لست معذوراً أبداً في تركك للحق واتباعك للطريق السوي، ولذلك فإن بعض الحوادث التي تحصل عن ترك بعض الأشخاص للالتزام بالدين نتيجة تصرف خاطئ من داعية، تنبئ أول ما تنبئ عن انحراف في عقلية المدعو؛ لأنه يربط الدين بالشخص، فإذا استقام له الشخص استقام هو على الدين، وإذا رأى شيئاً من التغير أو سوءاً في المعاملة؛ ترك الالتزام بالدين، هذه قلة عقل!! هذا إنسان ضعيف الشخصية، ضحل التفكير، لا يفرق بين الأشخاص وبين المنهج، لو كان إنساناً عاقلاً لقال: لي صوابه وأترك خطأه، آخذ مما قاله لي بشكل صحيح وأترك ما أخطأ فيه، لكن كثيراً من الناس لا يعملون بذلك، فيقول بعضهم: أنا ما علي من عقيدة فلان، وصلاة فلان هذه له، أنا علي من تعامله (الدين المعاملة).
ولذلك من اضطراب الموازين عندهم: أنهم يعطون الأولوية ليس لعقيدة الشخص ولا لدينه، وإنما يعطون الأولوية لأخلاقه وتعامله، فإذا صارت أخلاق فلان من الناس عندهم عالية، وتعامله رفيعاً أحبوه، وأقبلوا عليه، ولو كان فاجراً فاسقاً كافراً مشركاً، لأن التعامل عندهم هو أهم شيء، يقولون: ما لنا ولصلاته! ما لنا ولدينه! ما لنا ولعبادته! ما لنا ولعلمه! هذه له، نحن لنا تعامله وأخلاقه، هذه التي نحن نستفيد منها.
فالناس مع الأسف -أيها الإخوة! - وهذه نقطة في غاية الأهمية- الناس لا يهتمون بأخذ العلم والدين والأحكام الشرعية، مثلما يهتمون بقضية التعامل والأخلاق، ولذلك يحبون بعض الكفار أكثر من بعض المسلمين، يقولون: هذا الكافر رأينا منه صدق الوعد والحديث، والكرم، لا يؤذينا، ولا يأكل حقنا، ويعطينا الراتب كاملاً، والمستحقات المالية، فهذا أحب إلينا من المسلم الذي يغلظ علينا بالقول، وربما ظلمنا، ويخلف المواعيد معنا.
لو كانت المقارنة فقط في الأخلاق، فقالوا: خلق هذا أحسن من خلق هذا لكان فيه شيء من الصواب، لكنهم يقولون: فلان أحسن من فلان، مع أن هذا مشرك وهذا مسلم، هذا كافر وهذا موحد، لكن عندهم أن التعامل هو الأساس وهو كل شيء.
فلا بد من تصحيح هذا المفهوم الخطير والخاطئ والآثم، الموجود في النفوس، ولا يحملنك -يا أخي! - غلظة داعية، أو شدته في القول، أو سوء أسلوبه أن ترفض الحق الذي يقدمه لك؛ لأننا نهتم بالمضمون أكثر من الأسلوب، هذا ما ينبغي أن نكون عليه نحن، أن نهتم بالمضمون أكثر من الأسلوب، وإلا فلنتبع دين النصارى لأن بعض المبشرين كرماء، يعطون الدواء مجاناً، ورعاية الحامل مجاناً، والتطبيب مجاناً، والغذاء المتكامل مجاناً، والإسعافات الأولية مجاناً، ويبنون لنا مساكن مجاناً في بعض البلدان، إذا كانت المسألة مسألة تعامل فلنتبع إذاً الضال والمشرك والمنحرف لأن تعامله راقٍ، وأخلاقه حسنة، وهذا الكلام قلَّ من يفهمه في هذا الزمان بسبب أن الناس يهتمون بالشكليات أكثر من المضمون.
ونحن لا نسقط الشكليات من الاعتبار، ولا نقول إن التعامل والأخلاق ليست مهمة، بل إن كل الموضوع الذي نطرحه في هذه الليلة هو تأكيد على قضية الأخلاق وأهميتها في نجاح الداعية، لكن الكلام الآن موجه إلى المدعو، فنقول له: لو أن فلاناً أخطأ معك في الأسلوب أو التعامل فلا يدفعك ذلك إلى كرهه وبغضه، وإلقاء كل ما يقول لك من العلم خلف ظهرك لأنه أساء إليك بكلمة، أو أخلف معك موعداً، أو ظلمك في حقٍ لم يعطه لك، بل لا بد أن نتحمل الأذية في سبيل أن نأخذ العلم والدين.
وقلَّ من نجد من الناس الكمَّل، فالكمَّل قليلون جداً، لا بد لكل شخص أن تجد عليه مآخذ، فإذا كنا سنترك ما عند فلان من الخير، وما عند فلان من العلم، وما عند فلان من النصيحة من أجل شيءٍ من الغلظة، أو شيءٍ من الجفاء، أو شيءٍ من الشدة في الأسلوب، فإننا في هذه الحالة سنخسر كثيراً جداً.
ونقول أيها الإخوة: إن صدق الداعية مع الله قبل أن يكون مع المدعو من أهم عوامل النجاح، لا يكفي أن تكون صادقاً في حديثك معه، وأن تكون منضبطاً في المواعيد، وإذا وعدته بشيء لم تخلف وعدك، وأديت ما وعدته به إليه، نقول: إن هذا ليس بكافٍ، فإن الصدق مع الله هو الأساس؛ لأن بعض التصنعات لا تنطلي على بعض الناس، فيرضون الشخص وإن كان في الظاهر ذا تعاملٍ مستقيم، بسبب أن النفس لا ترتاح وتثق بمن علاقته بالله مهزوزة.